مقال لمجلة بقية الله بعنوان : زينب (ع) قمة التحدي للطاغية

تجلى دور السيدة زينب (ع) بعد المأساة في كربلاء في عدد من المواقف البطولية التي كانت تحمل الكثير من التحدي للطاغية ولكل الواقع الذي كان يحيط به ، فقد كان عليها ان لا تستسلم للواقع والمحيط الذي سيقت اليه ،وان تظهر وضاعة الطاغية وتكشف زيفه وحجمه الحقيقي وفظاعة الجريمة التي ارتكبها بحق آل بيت رسول الله (ص)

 والا تدع الدم المسفوح في كربلاء يذهب هدراً.وقد تمثلت قمة التحدي لدى زينب (ع) في موقفين بارزين احدهما في قصر الكوفة امام عبيد الله بن زياد ،والثاني في قصر الشام امام يزيد بن معاوية نفسه.

ففي الموقف الاول: عبرت زينب (ع) عن احتقارها واستهانتها بابن مرجانة ، فاندفع الأثيم يظهر الشماتة بما حصل للحسين (ع)وأصحابه في كربلاء قائلاً:"الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم  وأكذب أحدوثتكم"    فانبرت  حفيدة الرسول بكل شجاعة وصلابة قائلة :" الحمد لله الذي اكرمنا بنبيه وطهرنا من الرجس تطهيرا،إنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهو غيرنا ".

لقد قالت هذا القول الصّارم الّذي هو امضى من الّسلاح و هى في قيد الاسر، و انزلت بهذه الكّلمات الطّاغية من عرشهِ إلى  قبره و عرفته أمام خدمه و عبيده انه المفتضح وا لمنهزم وأن اخاها المنتصر.

وهنا لم يجدعبيد اللّه بن زياد لغة يتكلم بها سوى لغة التشفي بقتل عترة رسول الله (ص) قائلاً:كيف رأيت صنع الله بأخيك؟

فأجابت بكل يقين: "ما رأيت إلا جميلاً ، هؤلاء قوم كتب الله  عليهم القتل فبرزوا الى مضاجعهم ، وسيجمع الله بينك وبينهم ،فتحاج وتخاصم ، فانظر لمن الفلج يومئذ، ثكلتك امك يا ابن مرجانة ".

وفي الموقف الثاني: في الشام في بلاط يزيد بن معاوية وامامه وثبت السيدة زينب (ع) كالاسد فسحقت جبروته وطغيانه بخطبة تعتبر من متممات النهضة الحسينية حيث قالت (ع) له بحضور حشد من اركان بلاطه والناس :

(أظننت يا يزيد حيث أخذت علينا اقطار الارض وآفاق السماء فأصبحنا نساق كما تساق الإماء أن بنا على الله هوناً وبك عليه كرامة! وان ذلك لعظيم خطرك عنده ! فشمخت بأنفك ونظرت في عطفك جذلان مسروراً ،حين رأيت الدنيا لك مستوسقة والامور  متسقة ، وحين صفا لك ملكنا وسلطاننا، فمهلاً مهلاً،أنسيت قول الله عز وجل ( ولا يحسبن الذين كفروا أنما نملي لهم خير لأنفسهم إنما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين ).

وهي في هذا المقطع تبين غرور الطاغية وبطشه ، فقد حسب انه هو المنتصر بما يملك من القوى  العسكرية التي ملأت البيداء وسدت آفاق السماء إلا انه انتصار مؤقت ، ومن غروره وجهله انه ظن ان ما احرزه من الانتصار كان لكرامته عند الله تعالى وهوان لاهل البيت (ع) ولم يعلم أن الله إنما يملي للكافرين في الدنيا من النعم ليزدادوا إثماً ولهم في الآخرة عذاب مهين .

وفي مقطع آخر : بينت زينب (ع) ان الطاغية بسفكه لدماء العترة الطاهرة لم يسفك إلا دمه ،ولم يفرِ الا جلده ، فان تلك النفوس الزكية حية خالدة وقد بلغت قمة الشرف والكرامة وانه هو الذي باء بالخزي والخسران .

قالت (ع) : فوالله ما فريت إلا جلدك ولا حززت إلا لحمك ولتردن على رسول الله (ص) بما تحملت من سفك دماء ذريته وانتهكت من حرمته  في  عترته ولحمته ،وحيث يجمع الله شملهم ويلم شعثهم ويأخذ بحقهم (ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتاً بل احياء عند ربهم  يرزقون).وحسبك بالله حاكماً وبمحمد خصيماً وبجبرائيل ظهيراً وسيعلم من سوّل لك ومكنك من رقاب المسلمين ،بئس للظالمين بدلا وايكم شرٌ مكاناً وأضعف جنداً .

وفي مقطع آخر : اظهرت (ع) سمو مكانتها وعلو شأنها وكلمت الطاغية  بكلام الاميروالسلطان،فاستهانت به  وحقرته،واستصغرت قدره ،وترفعت عن محاورته وتعالت عن مخاطبته ،ولم تبال بسلطانه ولا بجنده وبالرغم من كل ما ألم بها من مصائب كانت اعظم قوة واشد بأساً من الطاغية وجبروته.

 ثم تحدت يزيد وعرضت الى انه مهما بذل من جهد لمحو ذكر أهل البيت (ع) فانه لا يستطيع الى ذلك سبيلاً لانهم مع الحق والحق لا بد ان ينتصر.

 قالت (ع) : "ولئن جرت عليّ الدواهي مخاطبتك، إني استصغر قدرك واستعظم تقريعك واستكثر توبيخك لكن العيون عبرى والصدور حرى.. فكد كيدك واسع سعيك وناصب جهدك فوالله لا تمحون ذكرنا ولا تميت وحينا ولا تدرك أمدنا ولا ترحض عنك عارها ،وهل رأيك إلا فند وأيامك الا عددأً وجمعك الا بدداً يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين "

ولا تظهر شجاعة السيدة (ع) وصلابتها وقوة مواقفها هذه وتلك إلا اذا لاحظنا الحالة  التي كانت عليها (ع) عندما اطلقت هذه المواقف ، وحالة يزيد وكذلك ابن زياد والأجواء المحيطة بهما،حيث نجد  في مقارنة سريعة بين الحالتين ان ثمة فارقاً كبيراً من عدة جهات:

-ان زينب (ع) امرأة في مقابل رجل، هو عبيد الله بن زياد في الكوفة ويزيد بن معاوية بالذات في الشام.

-ويزيد هذا كما صاحبه ابن زياد هو الملك المهيمن والسلطان القوي الذي يملك كل وسائل القهر والقمع والسلطة والجبروت وعنده الرجال والسلاح ولديه الجاه العريض وغرور السلطان وعنجهيته وعنفوانه وزهوه،وكل ذلك له اثر في بث الرهبة والرعب في قلب امرأة لا تملك من وسائل السلطان ولا من اسباب القوة المادية شيئاً.

-ويزيد يمثل ايضا اقصى حالات الطغيان والاستكبار فلا يرى ان احداً قادر على ان يخضعه او يحتقره ويستصغر قدره او ان يملي عليه رأيه وارادته ويواجهه في عقر داره وفي مركز سلطانه بل هو يحمل في داخله الدوافع القوية لسحق كل من يعترض سبيل اهوائه وطموحاته.

 يزيد هذا تتحداه زينب (ع) وتقف بكل شجاعة وقوة وفي عقر داره وبين عبيده ورجاله لتوبخه وتحتقره وتنكر عليه انحرافه وجرائمه ثم لتتوعده بالخزي والخسران .

- اضاف الى ذلك ان يزيد يجلس في بيته وقصره ويعيش الأمن والأمان والاستقرار لانه في بلده وبين اهله وجنده وحاشيته يتربع على العرش كالطاووس بينما زينب (ع) في موقع الخطر لا أمان لها وهي غريبة اسيرة مكبلة بالقيود ومحاطة بالاوغاد والسلاح.

-ثم هو يعيش زهو النصر بعد ان حقق رغباته في قتل ابن رسول الله (ص) وقضى على محاولاته في الثورة والنهوض ضد ظلمه وطغيانه ،كما انه يعيش العز الظاهري من موقع انتصاره الآني ،بينما زينب (ع) تعيش مرارة الهزيمة وحزن الانكسار وفقد الأحبة وذل الاسر و السّبي هي ومن معها من عترة رسول اللّه (ص).

كانت هذه بعض لمحات الواقع الّذي واجهته زينب (ع) الّتي هي من جنس البشر ومن لحم ودم ولها مشاعرها واحاسيسها ،وقد واجهت (ع) كلّ هذا الواقع الصّعب والمرير بصبر وثبات،ولم تكن تملك إلا نفسها وقوي ارادتها وقويم وعيها وطلاقة لسانها واصالة رأيها وقوة حجتها ،ولم تبال بحشود يزيد ولا بسلطانه وملكه ،ولا برجاله وسلاحه ،ولا بمكره و خداعه.ولم يؤثر شيء من ذلك كله ، في سلب إرادتها أو في ثنيها عن قول كلمة الحق امام ذلك السلطان الجائر متمردة عليه في صميم محيطه وبيئته.

  وإن مواجهة زينب (ع) لضغوطات واقع الانحراف والطّغيان ،في اشد الامور حساسية وأهمية وهي لا تملك الا وعيها وارادتها وثقتها بربها وشجاعتها وقوة منطقها، ثمّ تحركها في وكر يزيد وابن زياد وفي صميم محيطهما لمواجتهما ومواجهة جرائمهما بكل جرأة وصلابة يدل على انه لا مجال للاستسلام والخضوع للظالم بحجة ضغوطات الواقع والمحيط او السلطة وامتلاك وسائل القهر والبغي، كما انه يدل على ان للمراة قوة حقيقية وقدرة على ان تواجه بارادتها ووعيها  القوى الظالمة واشدها بغياً واستكباراً وان يكون لمواقفها هذه انعكاساً ايجابياً على القضايا الكبرى، فالمواقف البطولية التي وقفتها السيدة زينب (ع) في الكوفة ثم في الشام وبعد ذلك في المدينة المنورة جعلت من كربلاء تاريخاً خالداً يتجدد على مدى الزمان والمكان .