الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغَداً حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدوٌ ولكم في الأرض مستقرٌ ومتاعٌ إلى حين).
تحدثنا في الحلقة السابقة عن مدلول هاتين الآيتين الواردتين في إطار توضيح قصة دخول آدم وحواء الجنة ومخالفتهما الأمر الإلهي بعدم الاقتراب من الشجرة الممنوعة، وأكلهما منها بعد أن وسوس لهما الشيطان بذلك فأزلهما, مما أدى إلى إخراجهما من الجنة.
ولكن تبقى أمامنا عدة نقاط لا بد من البحث فيها في هاتين الآيتين باختصار:
النقطة الاولى: من المعلوم والواضح أن الله سبحانه خلق آدم من تراب قال تعالى: (إن مثَلَ عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون)آل عمران/59.
وقد ورد في الأحاديث عن النبي (ص) وأئمة أهل البيت (ع) انه إنما سمي آدم آدم لأنه خلق من أديم الأرض، أي وجه الأرض, أي من التراب.
وأما حواء فلم يرد في القرآن الكريم ما يوضح كيفية بَدءِ خلقها وإنما ورد ذلك في السنة النبوية الشريفة، وقد رأى بعض المفسرين استنادا إلى أحاديث مروية في السنة الشريفة: ان حواء خلقت من جسم آدم ومن ضلع من أضلاعه، ولكن هذه الأحاديث غيرُ معتبرة ولا معتمدة، وليس هناك مصدر صحيح لهذه الفكرة الشائعة بين الناس وبين بعض المفسرين, بل ورد في كتاب من لا يحضره الفقيه وهو من الكتب المعتبرة عندنا أن الإمام الصادق (ع) عندما سئل عن هذه الإشاعة، استنكرها بشدة، وقال: تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، هل عَجَز الله أن يخلق لآدم زوجة من غير ضلعه؟.
كما أن الإمام الباقر (ع): كذب بشدة هذه الفكرة، فكرة خلق حواء من ضلع آدم, وصرح (عليه السلام) : بأن حواء خُلقت من فضل الطينة التي خُلق منها آدم, فآدم وحواء خلقا من الطين والتراب بإرادة الله وقدرته.
النقطة الثانية: إن المستفاد من قوله تعالى: (وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة) أن آدم وحواء لم يكونا في بداية خلقهما في الجنة، وإنما خلقا أولاً ثم امرهما الله بالسكن في الجنة.
والجنة هذه التي سكن فيها آدم وحواء لم تكن الجنة التي وعد الله بها المتقين في عالم الآخرة، بل كانت جنة من جنات الدنيا, أي أنها كانت بقعةً جميلةً خضراء في هذا العالم وفرَّ الله فيها لآدم جميع أنواع النعم والخيرات والملذات والراحة والأمن, ولعل مما يدل على ذلك:
أولاً: إن الجنة التي وعد الله بها المتقين في عالم الآخرة هي جنة خالدة، وقد ذكر القرآن مرارا ًخلودها، فلا يمكن إذن الخروج منها، والجنة التي كان فيها آدم خرج منها بعد أن صدرت المخالفة منه.
ثانياً: إن إبليس ليس له طريق إلى الجنة الخالدة، وليس لوسوسته مكان هناك, فلا يمكن أن تكون جنة آدم التي دخلها إبليس ووسوس له فيها -أن تكون- هي الجنة الخالدة التي وعد الله المتقين بها.
وثالثاً: إن الإمام الصادق (ع) سئل عن جنة آدم فقال (ع): هي جنة من جنات الدنيا، يطلع فيها الشمس والقمر، ولو كانت من جنات الآخرة ما خرج منها أبداً.
ومن هنا يتضح أن هبوط آدم ونزوله إلى الأرض كما في الآية (وقلنا اهبطوا) لم يكن هبوطاً ونزولاً مكانياً, بمعنى أنه كان في مكان مرتفع خارج الارض فهبط منه إلى الأرض، لأن جنته كانت في الأرض, بل المقصود هو الهبوط والنزول المقامي, أي أنه هبط من مكانته ومن مقامه الرفيع ومن تلك الجنة التي أكرمه الله بالعيش فيها براحة وأمان إلى مقام ودرجة أخرى أقل منها يعيش فيها التعب والعناء.
ومن هذه النقطة أيضاً يتضح ويتبين لنا أنه لا منافاة بين أن يكون آدم خليفة الله في الأرض وبين أن تكون الجنة هي المكان الطبيعي الذي يعيش فيه لولا المخالفة والعصيان، وذلك لأن الجنة التي كان يسكن فيها هي جنة من جنات الدنيا والأرض كما قلنا، ولو لم تصدر منه المخالفة لبقي فيها وعاش ومارس فيها خلافته في الأرض, إلا أنه بعد أن خالف تكليفه خرج من تلك البقعة ليكون في بقعة أخرى يعيش فيها ويمارس فيها خلافته في الارض أيضاً.
غاية الفرق أن جنة الأرض التي كان فيها, لها خصوصيات, ففيها الراحة والطمأنينة والأمان والنعيم والخيرات والملذات, أما البقعة الأخرى التي هبط إليها, فليس لها تلك الخصائص, بل فيها الراحة والتعب, وفيها الصحة والألم, وفيها الصعوبات والتحديات، وإذن فكلا المكانين المكان الذي كان فيه آدم قبل المخالفة والمكان الذي هبط إليه بعد المخالفة كلا هذين المكانين كانا في الأرض, وكان بإمكانه أن يمارس خلافته فيهما, والفرق أن في المكان الاول في الجنة يمارس الخلافة وهو يعيش منتهى النعيم والراحة, وفي المكان الثاني الذي جاء إليه بعد المخالفة يمارس الخلافة ايضاً ولكن في مكان يعيش فيه الصعوبات والتحديات والآلام ويواجه فيه الصحة والمرض والشدة والرخاء وما إلى ذلك.
النقطة الثالثة: إن الله سبحانه أشار في القرآن الكريم إلى الشجرة التي منعَ منها آدم وحواء في ست مواضع: منها: ما أشار إليه في الآية التي نفسرها وهي قوله تعالى: (ولا تقربا هذه الشجرة). ولم يشر القرآن في أي موضع إلى طبيعة أو كيفية أو اسم هذه الشجرة, وأنها ماذا كانت! وماذا كان ثمرها؟
ولكن ورد في الروايات والاحاديث الإسلامية أنها كانت الحِنطة, والعرب تطلق لفظة الشجرة حتى على النبتة، ولهذا أطلقت في القرآن الكريم لفظة الشجرة على نبتة اليقطين قال تعالى: (وأنبتنا عليه شجرة من يقطين) الصافات/ 146.
وعليه فلا مانع من إطلاق لفظة الشجرة على نبتة الحنطة.
والنقطة التي ينبغي أن نذكر بها هنا، هي أنه وصفت الشجرة الممنوعة في التوراة المعترف بها اليوم من قبل اليهود والمسيحيين بشجرة العلم والمعرفة وشجرة الحياة. وتقول التوراة في سِفر التكوين الإصحاح الثاني الفقرة رقم 17: إن آدم لم يكن عالماً ولا عارفاً قبل أكله من شجرة العلم والمعرفة حتى أنه لا يعرف ولم يميز أنه عريان، وعندما أكل من تلك الشجرة وصار إنساناً بمعنى الكلمة, طرد من الجنة خشية أن ياكل من شجرة الحياة أيضاً فيتخلّد كما الآلهة.
إن هذا الكلام من القرائن الواضحة والشاهدة على أن هذه التوراة ليست هي توراة موسى التي أوحى الله بها, بل هي من نسيج العقل البشري القاصر والمحدود الذي يعتبر العلم والمعرفة عيباً وشيناً للإنسان، ويعتبر آدم بسبب ارتكابه مخالفة تحصيل العلم والمعرفة مستحقاً للطرد من جنة الله! وكأن الجنة لم تكن مكانا للعقلاء وللعلماء وللعارفين ولأصحاب المقامات العلمية والفكرية! وسوف نتحدث في الحلقة القادمة إن شاء الله عن نوع معصية آدم والزلل الذي وقع فيه.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين