اليأس من رحمة الله وفقدان الامل بمغفرته وعفوه ،كالكفر بالله ، ولهذا السبب اذا افسد الشيطان شخصاً ويأس هذا الشخص من رحمة الله يصبح من خلال ذلك كحميد بن قحطبة لا يصوم ولا يصلي ويرتكب اي جريمة تسنح له الفرصة للقيام بها .
بسم الله الرحمن الرحيم
يقول الله تعالى: ( قل يا عبادي الذين أسرفوا على انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم ) الزمر /53.
هذه الآية تفتح ابواب الرحمة امام المذنبين وتعطيهم الامل بامكانية نسيان الماضي وفتح صفحة جديدة مع الله، فبلهجة مملوءة باللطف والمحبة والرأفة يفتح الله ابواب رحمته امام الجميع ويصدر اوامر العفو عنهم .
والتدقيق في عبارات هذه الآية يبين انها من اكثر آيات القرآن الكريم التي تعطي الأمل للعاصين كل العاصين مهما كانت ذنوبهم عظيمة وكبيرة .وشمولية هذه الآية وسعتها وصلت الى درجة قال بشأنها أمير المؤمنين علي بن ابي طالب (ع) : ما في القرآن آية أوسع من( يا عبادي الذين اسرفوا على انفسهم ..).
ومن اجل ان يتضح لنا معنى هذه الآية بشكل جيد فاننا نبحث في هذه الحلقة حول المقطع الاول منها اعني قوله تعالى : (يا عبادي الذين اسرفوا على انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله) . ونتحدث في الحلقة القادمة في المقطع الثاني منها اعني قوله تعالى : (إن الله يغفر الذنوب جميعاً انه هو الغفور الرحيم ).
يخاطب الله جميع عباده المذنبين الذين اسرفوا على انفسهم فارتكبوا المعاصي والذنوب الكبيرة والصغيرة ويدعوهم الى ان لا يقنطوا ولا ييأسوا من رحمة الله .
والاسراف في الآية بمعنى تجاوز الحد في كل فعل يفعله الانسان ، والاسراف على النفس هو التعدي عليها بارتكاب الذنوب واقتراف الاثام ، والقنوط بمعنى اليأس وفقدان الأمل بالمغفرة والرحمة الالهية.
فالله يدعو في هذه الآية جميع المذنبين الذين أسرفوا على انفسهم فارتكبوا المعاصي وارتكبوا الجرائم ،اسرفوا على انفسهم فظلموا او اعتدوا ،اسرفوا على انفسهم بترك التكاليف الالهية وما افترضه الله عليهم من العبادات والاحكام فتركوا الصلاة والصيام والحج والخمس والزكاة ، اسرفوا على انفسهم فلم ينتهوا عما نهى الله عنه من الغيبة والنميمة والكذب واكل الربا واكل اموال الناس بالباطل .. الله يدعو كل هؤلاء الذين استغرقوا في المعاصي والمحرمات والآثام ، يدعو كل اولئك الذين ابتعدوا عن خط الله فخانوا الامة والارض والوطن وتعاونوا مع الاعداء والمحتلين ، يدعو كل هؤلاء واولئك ان لا يقنطوا من رحمة الله وغفرانه.
(قل يا عبادي الذين اسرفوا على انفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ) لا تيأس، لا تفقد الأمل برحمة الله، كن واثقا بان الله سيغفر جميع ذنوبك مهما كان نوعها اذا تبت الى الله توبة صادقة ،اعتبر دائما ان طريق الانابة والعودة الى الله مفتوح امامك باستمرار وانك مهما كنت ملوثاً بالذوب والآثام والجريمة يمكنك ان تزكي نفسك وان تطهر نفسك وان تفتح صفحة جديدة في حياتك مع الله . لا تقل ان الله لن يرحمني ، أو ان طريق العودة الى الله مقفل بوجهي ،لا تعتبر نفسك ملوثاً بشكل لا يمكن ان تطهر نفسك وروحك ،لا تتصور استحالة غفران ذنوبك، لا تقل لا يمكنني ان اتخلص من أعباء ذنوبي الكبيرة التي فعلتها في حياتي ،لا تحدث نفسك بأنه لا جدوى من التوبة ومن العودة الى الله بعد كل تلك الجرائم، لا تقل ذلك ولا تحدث نفسك بذلك ،فان هذا الكلام وهذا التصور هو عين اليأس والقنوط من رحمة الله.
ان ذنب هذا التصور وهذا الكلام في اليأس من رحمة الله ومغفرته لهو اكبر من ذنوب سبعين سنة ، لان سبعين سنة من الذنوب قد لا تكون كفراً لكن اذا يئست من رحمة الله وفقدت الامل بمغفرة الله فان ذلك يساوي الكفر ،يقول القران الكريم : (لا تيأسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ) فاليأس من رحمة الله كالكفر بالله هذا من جهة ، ومن جهة اخرى ان القنوط من رحمة الله يؤدي بالانسان الى ان يصبح مجرماً ومذنباً ، يؤدي به الى المزيد من ارتكاب المعاصي والجرائم ،لانه يشعر بأنه لا أمل له بالخلاص ولا أمل له بالنجاة ولا أمل له بالخروج من واقعة السيء والمنحرف، ولذلك يكون اليأس سبباً للجرأة على ارتكاب جميع الذنوب وعلى ارتكاب المزيد من الجرائم لان اليائس يقول لنفسه: ما دمت مذنباً فلماذا أُحرم نفسي من شهوات الدنيا ؟!!
حميد بن قحطبة كان ضابطاً في جيش هارون الرشيد ، ولانه فقد الامل برحمة الله وبغفران الله لذنوبه ، تخلى عن كل القيم وعن كل التكاليف والواجبات الآلهية وارتكب المزيد من الجرائم بحق الابرياء والصالحين .
يروي احد اصحاب الامام الصادق قصة هذا الرجل للامام الصادق (ع) فيقول : ذهبت في شهر رمضان الى حميد بن قحطبة فوجدته مفطراً فقلت له : هل انت مريض؟ قال : لا ،قلت : انك لست مسافراً فما بالك مفطراً في شهر الله ؟ ،قال : لاني اعلم ان الله لن يغفر لي ،فقلت : وماذا فعلت حتى لا يغفر الله لك؟ ،فقال : طلبني هارون الرشيد في احدى الليالي وقال لي : الى اي مدى انت معي ؟ فقلت له : اني مستعد لأن افديك بمالي وعرضي ونفسي ،فقال : لا يكفي ،فذهبت عنه ، وبينما كنت في طريقي الى منزلي طلبني مرة اخرى وقال لي : الى اي مدى انت معي؟ فقلت : اني مستعد ان افديك بديني فقال : هذا ما اريده ،ثم اعطاني سيفاً وقال لي : نفذ كل ما يقوله هذا الغلام ، يقول حميد : اخذني الغلام الى باب احد البيوت ،ففتح باب احدى الغرف وكان فيها عشرون شاباً من ذرية النبي الأكرم (ص) مكبلين بالأصفاد والحديد فأتى بهم الى وسط الدار وكان فيها بئر ، فأمرني الغلام أن اضرب اعناقهم وارم بها في البئر،فضربت اعناقهم ورميت بها في البئر ثم فتح باب غرفة ثانية وكان فيها عدد من السادات من سلالة الزهراء (ع) محبوسين وكانوا مسنين فضربت اعناقهم ورميتهم في البئر وكان اخرج شيخاً ابيض البشرة فالتفت اليّ وقال اذا سألتك امي الزهراء يوم القيامة عن سبب قتلي فبماذا تجيب؟ فارتجفت أوصالي ، فالتفت اليّ الغلام وأمرني بضرب عنقه فضربت عنقه ورميت به في البئر، ولاجل ذلك فان الله لن يغفر لي بعد كل ذلك ، فلماذا اصوم ؟
يقول الراوي نقلت هذه القصة للامام الصادق (ع) فتألم كثيراً عندما سمعها ثم قال : ان هذا الذي قنط من رحمة الله لذنبه اكبر من قتل ستين شخصاً من سلالة النبي (ص) .
والخلاصة : اناليأس من رحمة الله وفقدان الامل بمغفرته وعفوه ،كالكفر بالله ، ولهذا السبب اذا افسد الشيطان شخصاً ويأس هذا الشخص من رحمة الله يصبح من خلال ذلك كحميد بن قحطبة لا يصوم ولا يصلي ويرتكب اي جريمة تسنح له الفرصة للقيام بها .
ان اليأس من رحمة الله يؤدي الى ان يصبح الانسان مجرماً ومذنباً ، يؤدي الى ان يتجاوز الانسان كل القيم والمبادئ والأعراف ويقفز فوق الضمير الانسانية ويستغرق في المزيد من الشهوات والمحرمات .
بينما الأمل برحمة الله والثقة بالله واليقين من ان الله سيغفر كل ذنوب الانسان اذا تاب وعمل صالحاً سيجعل الانسان يسيطر على غرائزه وشهواته ،وينتصر في معركته الداخلية مع نفسه الامارة بالسوء.
وآخر دعوانا ان الحمد الله رب العالمين .