سلوك الأرملة بعد موت زوجها وقضية الزواج (66)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(والذين يُتوفون منكم ويذرُون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهرٍ وعشراً فإذا بلغن أجلهن فلا جُناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير). البقرة / 234.

إن واحدةً ن المشاكل الرئيسية في حياة المرأة هي مشكلة الزواج بعد موت زوجها، وحيث إن زواج الأرملة بعد موت زوجها مباشرةً هو أمرٌ لا ينسجم مع ما تحملُه المرأة من حب واحترام لزوجها السابق، ولا مع الإطمئنان إلى عدم وجود حمل في بطنها منه، وهو بالإضافة إلى ذلك أمرٌ بالغُ الحساسية من جهة أنه قد يؤدي إلى جرح مشاعر وأحاسيس أهل زوجها السابق.

لذلك كلُه فقد جاءت هذه الآية لتقرر عدة الوفاة للمراة التي يموت عنها زوجها ولتفرض على المرأة أن تعتد وأن يمرَّ على موت زوجها السابق مدة أربعة أشهرٍ وعشرة أيام حتى تستطيع أن تتزوج برجل جديد.

وهنا نلفت إلى أن احترام الحياة الزوجية بعد موت أحد الزوجين أمرٌ فطري، بحيث إننا في بعض القبائل والعشائر تقاليد خاصة بهذا الموضوع، بالرغم من أن بعض هذه العادات كانت تبلغُ حد الإفراط الذي يقيدُ المرأة بقيودٍ ثقليةٍ وقاسية، تبلغُ في بعض الحالات حدَّ القضاء على حياتها احتراماً لذكرى زوجها الراحل.

من هذه العادات والتقاليد مثلاً قيامُ بعض القبائل بحرق المرأة بعد موت زوجها، أو بدفنها حيةً معه في قبره انطلاقا من فكرة أنه لا ينبغي أن تعيش المرأة بعد زوجها.

بعضُ القبائل الأخرى كان يرحم المرأة فلا يحرقها ولا يدفنها حيةً في قبر زوجها الميت, ولكن كان يحرُم المرأة من الزواج بعد موت زوجها مدى الحياة.

وفي بعض القبائل كان يُفرض على المرأة أن تقضي فترة ًطويلة، بجانب قبر زوجها، فكان يفرض عليها أن تصنع خيمةً سوداء قذرة بالقرب من قبر زوجها لتجلس فيها، فكانت تمكثُ تحتها وتلبسُ ثياباً رثةً وسِخة وتبتعد عن كل نظافةٍ أو زينةٍ أو طيب.

ولكن عندما جاء الإسلام ألغى كل هذه الخرافات والتقاليد التي تفرض على المرأة الانسحاق تحت وطأة الحزن على زوجها، ولكنه في الوقت الذي ألغى الإسلام هذه العادات وراعى الجانب الاجتماعي والعاطفي والإنساني للمرأة، أراد أن يحافظ على احترام الحياة الزوجية وطلب من المرأة أن تعتد مدة أربعة أشهر وعشرةِ أيامٍ تمارسُ خلالها الحزن بشكل طبيعي ومعقول على زوجها.

ومن هنا فان الآية بمدلولها تلغي العادات الاجتماعية غير المعقولة التي كانت مفروضة على المرأة المتوفى عنها زوجها في الجاهلية، وتقرر أن على المرأة التي يتوفى عنها زوجُها أن تصبر أربعة أشهر وعشرة أيام فلا تتزوج قبل انتهاء هذه المدة. تقول الآية: (والذين يُتوفَّون منكم ويذرون ـ أي يتركون ـ أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهرٍ وعشراً).

وحسب ما جاء في الأحاديث والنصوص المروية عن الرسول وأئمة أهل البيت عليهم السلام، فإن على الأرملة خلال فترة العدة وما دامت في عدة الوفاة، أن تحافظ على مظاهر الحزن على زوجها بالشكل الطبيعي فلا يحقُ لها أن تتزين وتضع الطيب وتلبِس الثياب الفاخرة وما شاكل ذلك. عليها أن تجتنب كل مظاهر الزينة التي تدعو إلى الرغبة بها، ولا شك أن فلسفة المحافظة على هذه العدة توجب أن تجتنب المرأة هذه المظاهر التي تدل على عدم حزنها وعلى عدم مبالاتها بوفاة زوجها.

إذن: الإسلام حرر المرأة من الخرافات الجاهلية، واقتصر على هذه العدة القصيرة، وعلى هذه القيود الطبيعية خلال فترة العدة التي تعبرُ عن احترام الحياة الزوجية.

بعض النساء في عصر الإسلام الأول كُنَّ يعتقدن بأن للمرأة أن تتزين خلال العدة، من اللواتي كن يعتقدن ذلك امرأةٌ جاءت إلى رسول الله (ص) تطلُب منه أن يجيز لها أن تكتحل وهي في العدة، ،فنهاها رسول الله  (ص) عن ذلك وذكّرها بما كان يُفرض على المرأة في الجاهلية خلال سنة كاملة بعد الوفاة من مظاهر الحِداد الشديد والعادات القاسية، مشيراً إلى سماحة الإسلام وكيف أن الإسلام راعى جانب المرأة في هذا الموضوع.

ومما ينبغي أن نلتفت إليه هنا أن الأحكام الإسلامية المتعلقة بعدة الوفاة تفرضُ على المرأة أن تعتد المدة التي ذكرناها وإن لم يكن هناك أيُ احتمال بأن تكون حاملاً، كما أن عدتها لا تبدأ بتاريخ موت زوجها، بل تبدأُ بالعدة بتاريخ وصول خبر موت زوجها إليها، وإن كان ذلك بعد شهور من موته.

وهذا يدلٌ دلالةً واضحة على أن الهدف من تشريع العدة في الإسلام هو الحفاظُ على احترام الحياة الزوجية وحرمتِها من جهة، ورعاية مشاعر وأحاسيس أهل الزوج واقربائه من جهة أخرى، والإطمئنان بعدم وجود حمل من جهة ثانية.

وأما قولهُ تعالى في المقطع الآخر من الآية: (فإذا بلغن أجلُهن- أي إذا انتهت مدة العدة- فلا جُناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف)، فهو يشير إلى أن من حق المرأة بعد انتهاء عدتها أن تصنع بنفسها ما تريد بالمعروف, أي ضمن الضوابط والحدود الشرعية، فما كان ممنوعاً عليها أيام العدة من مظاهر الزينة والتعرض للخطاب والزواج, فإن لها أن تفعله بعد  أن انتهت عدتها, فلها أن تتزوج ممن تشاء وأن لا تستمع إلى كل التقاليد الظالمة التي تنكر عليها الزواج باسم الوفاء للزوج، فإنه لا معنى للوفاء بعد أن تحول الزوج إلى عالم آخر لا يفكرُ فيه بأي شيء مما يحدث في هذا العالم من سرورٍ وحزن أو لذةٍ وألم.

ولذلك فإن للمرأة الأرملة أن  تتزوج بعد انتهاء العدة من دون أن تشعرُ بأي تأنيب ضمير.

وليس من حق أهلها أو أهل زوجها السابق أن يمنعوها من الزواج أو أن يتدخلوا في شؤونها على هذا الصعيد ما دامت انها تمارسُ حقها في إطار الحدود الشرعية العادلة.

وليس لأهل زوجها أن يعتبروا إقدامها على خطوةِ الزواج، عملاً غير أخلاقي منها، أو خيانةً أو خلاف الوفاء للزوج،  فيثيروا حولها الاستنكار ويبدؤون بالكلام عليها والتشهير بها، كما نلاحظ في بعض مجتمعاتنا، فإن هذا كله مما لا يصحُ ولا ينبغي أن يصدر عن المؤمنين، الذين يلتزمون بالقرآن، لأن القرآن هو الذي سمح للمرأة الأرملة أن تمارس حقها في الحياة وأن تتزوج ممن تريد عندما تشعر بحاجتها إلى الزواج، وقد رفع المسؤولية عنكم فيما تفعلُه  بنفسها بالمعروف, فاتركوها تبني حياتها على أساس سليم ولا تتدخلوا في شؤونها والله بما تعملون خبير.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين