مفهوم الشفاعة (32)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون).

هذه الآية ترفض أوهام اليهود التي كانوا يتصورون بموجبها أن الأنبياء سوف يشفعون لهم، أو أنهم قادرون على دفع فدية وبدلاً عن ذنوبهم وانحرافاتهم كما يدفعون الرشوة في هذه الدنيا.

القرآن يخاطبهم ويقول: (واتقوا يوماً لا تجزي نفس عن نفس شيئاً ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون).

هذه الآية تشير في الواقع إلى ما يجري من محاولات في الحياة الدنيا لإنقاذ المذنب من العقاب، أما في الآخرة فلا يُجدِ المال في الدفاع عن المذنب (ولا يؤخذ منها عدل) والقرآن الكريم يعبر عن المال باسم العدل, أي الفدية والبدل والعوض.

وربما يقدّم المذنب في هذه الحياة واسطة وشفعاء لينقذوه مما ينتظره من مصير، وليستفيد من نفوذهم لتعطيل أحكام القانون.

أما في الآخرة فلا يقبل من الإنسان واسطة (ولا يقبل منها شفاعة). وفي الحياة الدنيا إذا لم توجد الواسطة يستعين المذنبون بالقوة، ويستعينون بأصحابهم وقومهم وعشيرتهم لينصروهم ويخلصوهم من الجزاء. أما في يوم القيامة فلا يقوم أحد بنجاتهم ومساعدتهم (ولا هم ينصرون).

إذن القرآن الكريم ينفي بشدة تأثير المال، والوساطة، والقوة، في المحكمة الإلهية العادلة في الحياة الآخرة.

ففي الآخرة لا تدفع نفس عن نفس شيئاً, ولا تقبل من المذنب في الآخرة واسطة أو شفاعة، ولا يقوم بنجاة المذنب أية قوة أو سلطة أو أي شيء آخر (يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم) الشعراء 88/89.

فالسبيل الوحيد للنجاة يوم القيامة هو الإيمان، والتقوى، والعمل الصالح، والاستعانة برحمة الله عز وجل.

وهنا نريد أن نتحدث عن الشفاعة والوساطة التي نفتها الآية المباركة.

في الواقع للشفاعة أقسام:

منها: ما هو مرفوض وظالم ولا وجود له في المجال الإلهي وفي المحكمة الإلهية.

ومنها: ما هو مقبول وعادل، وله وجود في المجال الإلهي وفي يوم القيامة.

الشفاعة المرفوضة بأدلة عقلية ونقلية إنما هي التي تعني أن المجرم يجد وسيلة ينفذ من خلالها إلى الحكم الإلهي ويحول دون تطبيقه, تماماً كما يحدث في المجتمعات البشرية في هذه الحياة من لعب بالقانون بنفوذ الوساطة.

ويظن كثير من عامة الناس أن شفاعة النبي (ص) والأئمة (ع) إنما هي من هذا النوع، بحيث إن الأئمة يتدخلون لتعطيل الحكم الإلهي.

يظنون أن النبي وعلياً والزهراء والأئمة الأطهار(ع) لهم نفوذ في الساحة الإلهية، وهم يستغلون نفوذهم لتغيير ارادة الله ولنقض أحكامه.

هذا التصور للشفاعة ليس باطلاً فحسب, وإنما قد يكون شركاً بالله في بعض وجوهه.

الشفاعة الصحيحة هي التي تحفظ القانون وتؤيده وتنسجم معه, وهذه الشفاعة لها أنواع: نذكر منها نوعاً واحداً وهو ما نسميه بشفاعة القيادة أو شفاعة العمل.

وحتى يتضح لدينا هذا النوع من الشفاعة لا بد أن نعرف أن الأعمال التي يرتكبها الإنسان في الحياة الدنيا تتجسم في الآخرة بعينها، ونقول هنا أن الاعمال ليست هي وحدها التي تتجسم في الآخرة، وإنما الروابط والعلاقات المعنوية أيضاً تتجسم هناك.

الروابط المعنوية المقررة بين الناس في الدنيا تنتقل إلى الآخرة وتتحول هناك إلى صور عينية واقعية، بحيث إن هذه الروابط والعلاقات الموجودة هنا تتجسم نفسها هناك.

فعندما يكون هناك إنسان في عالم الدنيا سبباً لهداية شخص أو أمة بحيث إن هذا الشخص أو هذه الامة ارتبطت بذلك الإنسان ارتباط القيادة وارتباط القدوة الحسنة وارتباط المأموم بإمامه, وأصبح بينهما علاقة ورابطة قيادة, هذه العلاقة والرابطة التي تحققت بينهما في الدنيا تتجسم يوم القيامة وتتحول يوم القيامة إلى صور عينية يكون فيها ذلك الإنسان الهادي بصورة إمام وقدوة وقائد, والشخص المهدي والأمة التي اتبعته تكون بصورة تابع ومأموم.

وهكذا في محور الاضلال والإغواء والانحراف فالرابطة بين الإنسان المضل والإنسان الذي اتبعه في الضلال وعمل بعمله، تتحول يوم القيامة إلى واقع وحقيقة، فيكون المُضل إماماً والمُضلَل تابعاً ومأموماً.

يقول تعالى: (يوم ندعو كل أناسٍ بإمامهم) الإسراء/77. أي أن كل إنسان يحشر يوم القيامة مع قدوته وإمامه الذي اهتدى به واتبعه في العمل.

ويقول تعالى عن فرعون: (يَقدُمُ قومَه يوم القيامة فأوردهم النار) هود/98.

فرعون الذي كان إمام الظالمين من قومه في هذا العالم وكان الضالون يتبعونه ويعملون بعمله، يتجسم في الآخرة بصورة إمام وقائد لهؤلاء، وهو كما كان واسطة لهم وشفيعاً لقومه وواسطة لهم في الضلال لأنه دفع قومه للضلال وارتكاب الذنوب, فهو في الآخرة شفيع لهم وواسطة لهم يدفعهم نحو نار جهنم, فوساطته وشفاعته لدفع قومه نحو النار إنما هي تجسيم لوساطته الدنيوية في إضلالهم ,لأن هذه الروابط تتجسم في الأعمال في يوم القيامة.

وهكذا فإن كل الأشخاص الذين اهتدوا برسول الله(ص) واستجابوا لدعوته واتبعوا شريعته وعملوا في الحياة الدنيا بما أمر به، سوف يكونون وراءه يوم القيامة وهو يتقدمهم حاملاً (لواء الحمد).

والنبي(ص) كما كان واسطة في الدنيا في هدايتنا إلى الحق وفي العمل بالحق والعدل وأوامر الله, يكون في الآخرة واسطة لدخولنا الجنة.

وبهذا المعنى للشفاعة يكون الرسول شفيعاً لأمته، ويكون كل إمام من أئمة أهل البيت(ع) شفيعاً لأتباعه وشيعته الذين عملوا بعمله.

وهذه الشفاعة تسمى بشفاعة العمل، لأن العامل الأساسي الذي يوجب النجاح والفلاح في الآخرة إنما هو العمل الصالح، فإذا عملت صالحاً واتبعت رسول الله(ص) وكان بينك وبين رسول الله علاقة على المستوى العملي, فإن هذه العلاقة تتجسم يوم القيامة وتكون مع رسول الله(ص).

أما إذا لم تتبع ما أمر به رسول الله (ص) في حياتك على مستوى السلوك والمواقف, فمعنى ذلك أنك لم ترتبط به في هذه الحياة، وعليه: فلن تكون هناك أية واسطة بينك وبينه في الآخرة، وبهذا المعنى سوف لا يكون شفيعاً لك هناك، ولن تكون تحت لوائه وقيادته في الحياة الآخرة.

وشفاعة القيادة تشمل النجاة من العذاب وترفع من درجات الإنسان في يوم القيامة، لأنك إذا كنت متعلقاً برسول الله(ص) وبالأئمة(ع) في هذه الحياة، فإنك سوف تكون معهم يوم القيامة وستنال الحسنات الكبيرة والدرجات الرفيعة التي جعلها الله لشيعتهم وأتباعهم ومن سار على خطهم ونهجهم.

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين