ارتباط المتقين بالله يتجلى في الصلاة والإنفاق (11)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين، الذين يؤمنون بالغيبب ويقيمون الصلاة، ومما رزقناهم ينفقون والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما انزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون).

قلنا بأن هذه الآيات تتحدث عن خصائص وصفات المتقين وتطرح لهم خمس صفات:

الصفة الاولى: هي الإيمان بالغيب وقد تحدثنا عنها في الحلقة السابقة.

والصفة الثانية: هي أنهم  يقيمون الصلاة، أي أنهم يؤدونها في أوقاتها بأجزائها وشروطها وقيودها التي فرضها الله سبحانه وتعالى، ويتوجهون بها إلى الله وحده عز وجل.

والصلاة هي رمز الارتباط بالله، تجعل المؤمنين المنفتحين على عالم الغيب وعلى عالم ما وراء الطبيعة، على ارتباط دائم بالخالق عز وجل. وهم يؤكدون من خلال إقامتهم للصلاة في كل يوم خمس مرات إيمانهم بالله فاطر السموات والأرض، وإخلاصهم لله في جميع أعمالهم، (وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين) (قل إن صلاتي ونُسُكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أُمرت وأنا أول المسلمين).

وقد عبّر النبي (ص): عن الصلاة بأنها عمود الدين، وأنه ليس بين المؤمن والكافر إلا ترك الصلاة، وقد ذكر الله تعالى أن من الآثار التربوية للصلاة في حياة الإنسان أنها تنهى عن الفحشاء والمنكر، وتقتل الجريمة، وهي صمامُ الأمان من الانهيارات العصبية التي يتعرض  لها الإنسان خلال رحلته في الحياة، قال تعالى: (إن الإنسان خُلِق هلوعا، إذا مسّه الشر جزوعا، وإذا مسّه الخير منوعا إلا المصلين الذين  هم على صلاتهم دائمون) المعارج 19/23.

فالمصلون هم أكثر هدوءاً من غيرهم وأعمق اطمئناناً، وهم لديهم القدرة الكافية في مواجهة الصعاب والتحديات.

كان النبي (ص) إذا شعر بالضيق يتسرّب إلى صدره صاح يا بلال أرحنا، فكان يقوم بلال ويرفع الآذان للصلاة، أي يا بلال أرحنا.. أرحنا من هم الدنيا وقلقها, إرفع الآذان لنصلي لربنا صلاة الخاشعين المطمئنين.

والصلاة تعلمنا درس الحرية، فنحن نقول في الصلاة (إياك نعبد وإياك نستعين) فنتوجه بالعبادة والصلاة لله وحده ونرفض العبودية لغير الله, وهذه هي الحرية بأروع معانيها. فالمؤمنون المصلون لا ينحنون إلا أمام الله ولا يستسلمون أمام الجبابرة والطواغيت والمستكبرين.

الإنسان الذي يقف خمس مرات يومياً أمام الله ليؤدي الصلاة بشروطها, هذه الصلاة تنقله إلى عالم من المعنوية والروحانية بحيث تتثبت علاقته الإيمانية بالله، وتغسل عن قلبه وروحه الأدران والاوساخ وآثار الذنوب، وتطبع فكره وقوله وعمله بطابع إلهي.

يقول أبو عثمان كنت جالساً مع سلمان الفارسي تحت شجرة، فأخذ غصناً يابساً وهزه حتى تساقط جميع أوراقه ثم التفت إليَّ وقال: ما سألتني لِمَ فعلتُ ذلك؟!

فقلت له: ولِم فعلت ذلك؟

فقال: كنت جالساً ذات مرة مع رسول الله (ص) تحت شجرة، وفعل النبي (ص) بالشجرة ما فعلته، ثم التفت إليَّ النبي (ص) وقال: ما سألتني لِمَ فعلت ذلك؟

فقلت: ولِمَ فعلتَ ذلك يا رسول الله؟

فقال (ص): إن المسلم إذا توضأ فأحسن الوضوء، ثم صلى الصلوات الخمس،تحاتت عليه خطاياه كما تحات هذا الورق، أي أن الصلاة تسقط الذنوب عن الإنسان كما يتساقط الورق اليابس عن الشجر عند هزها.

ونقرأ في حديثٍ آخر عن أحد أصحاب رسول الله (ص) هو أبو أمامة إنه قال: كنت جالساً يوماً في المسجد مع رسول الله (ص) فجاءه رجل وقال: يا رسول الله، أذنبتُ ذنباً يستوجب الحد، فأقم عليَّ الحد، فقال (ص): أصليت معنا قال: نعم يا رسول الله، فقال (ص): فإن الله غفر ذنبك أو أسقط عنك الحد.

وهكذا فإن الصلاة إذا أدّاها الإنسان بجسمه وروحه وبحماس وانفتاح على الله، ولم تكن مجرد صورة وشكل من الاشكال الخالية من روح العبادة، فإنها تغسل عنه الذنوب والمعاصي, وترفعه الدرجات العالية ودرجات القرب من الله سبحانه وتعالى.

فالمؤمنون والمتقون عرفوا حق الصلاة ولم تشغلهم عنها وعن الإتيان بها لا زينةُ متاعٍ، ولا تجارةٌ ولا مالٌ ولا ولدٌ ولا موقعٌ أو منصب أو عمل, فكانوا ممن مدحهم الله عز وجل بقوله تعالى: (رجال لا تُلهيهم تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقام الصلاة  وإيتاء الزكاة) النور/ 37.

ومن ترك الصلاة جاحداً فهو مرتدٌ عن الإسلام، لأنه ليس بين المؤمن والكافر إلا ترك الصلاة، ومن ترك الصلاة متهاوناً فهو فاسق مستحقٌ للعقاب, كما قال تعالى: (فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون).

(الذين يؤمنون بالغيب ويقيمونن الصلاة ومما رزقناهم ينفقون).

وهذه هي الخصوصية الثالثة للمؤمنين والمتقين، وهي أنهم ينفقون مما رزقهم الله، والمراد بالإنفاق: هو الإعطاء, فالمتقون هم الذين يعطون مما رزقهم الله في سبيل الخير ومساعدة الآخرين, سواء كان الإنفاق واجباً, كالزكاة والخمس والنفقات الواجبة كالنفقة على الزوجة والاولاد والعيال، أو كان مستحباً, كالصدقة مثلاً والإنفاق الذي يكون من قبيل الإيثار كما في قوله تعالى: (ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة).

ونلاحظ  في الآية ان الله تعالى يقول: (ومما رزقناهم ينفقون) فينسب المال الذي ينفق منه الإنسان المؤمن إلى مصدره الاساسي وهو الله، وذلك من أجل أن يُدرك الإنسان انه عندما ينفق لا يُنفق من المال الذي يختص به أو يملكه ملكاً ذاتياً حتى يعيش انانية العطاء، بل هو ينفق مما رزقه الله, ويعطي مما وهبه الله له، ومما أفاضه وأنعمه عليه. وهذا يوحي بأن على الإنسان أن يتحمل مسؤولية كل ما رزقه الله ليعطيه وينفق منه على اساس المسؤولية, فليس حراً أن يفعل برزقه ما يريد وكيفما يريد، بل لا بد أن يُنفق ما رزقه الله في الطُرق المشروعة التي يرضى الله عنها ابتغاءً لرضوان الله.

ونلاحظ أيضاً أن القرآن لا يقول (ومن أموالهم ينفقون) بل يقول: (ومما رزقناهم ينفقون) وبذلك وسَّع دائرة ونطاق الإنفاق ليشمل كل المواهب والطاقات المادية كالمال، والمعنوية كالعلم والجاه والجهد وغير ذلك مما يحتاج إليه الآخرون.

فالمتقون يُنفقون من اموالهم إذا كانوا يملكون مالاً، وينفقون من علمهم ومواهبهم العقلية عندما يملكون ذلك، وينفقون من جهدهم وطاقاتهم الجسيمة إن كانوا يملكون طاقة وجهداً وقوةً بدنية، ويُنفقون من جاههم ومكانتهم الاجتماعية عندما يحتاج الآخرون إلى ذلك.

وتوسيع الإنفاق في الآية إلى ما هو أبعد من المال هو مما ورد في الحديث عن الإمام الصادق (ع) في تفسير الآية (ومما رزقناهم ينفقون) حيث قال (ع): إن معناه (ومما علمناهم يبثون).

ومن الواضح أن هذه الرواية لا تريد أن تجعل الإنفاق مختصاً بالعلم، بل إن الإمام الصادق (ع) يريد بذكر هذا النوع من الإنفاق، أن يوسّع مفهوم الإنفاق كي لا يكون مقتصراً على الجانب المالي كما يتبادر إلى الاذهان للوهلة الاولى.

والخلاصة: إن المتقين يشعرون بانهم مسؤولون عن الإنفاق من كل ما رزقهم الله من جميع إمكاناتهم من مالٍ وعلمٍ وجهدٍ وجاهٍ وغير ذلك، فلا يحتكرون ذلك لأنفسهم بل يبذلونه لمن يحتاجه من الناس, دون أن يترقبوا من انسان جزاءً أو وشكوراً، على قاعدة (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً).

 والارتباط بالناس والمحتاجين هو في الحقيقة نتيجةٌ للارتباط بالله، فالإنسان المرتبط بالله يؤمن أن كل ما لديه من نعمٍ إنما هي مواهبٌ من الله مودعةٌ لديه لمرحلة وفترة زمنية معينة، ومن هنا فلا يُزعجه الإنفاق والإعطاء مما رزقه الله، بل يفرحه ويسره, لأنه بالإنفاق قسًّم مال الله بين عباد الله، وبقيت له نتائج هذا العمل وبركاته المادية والمعنوية، وهذا التفكير وهذه الروحية تُطهّر نفس الإنسان وروحه من البخل والحسد, وتحول الحياة إلى ساحة للتعاون, حيث يشعر كل فردٍ بأنه مسؤولٌ أن يضع ما لديه من مواهب وأرزاق تحت تصرف كل المحتاجين وأصحاب العجز والفاقة.

 والمؤمنون المتقون الذين يملكون هذه الروحية يندفعون في ارتباطهم بالله في إقامة الصلاة وفي ارتباطهم بالناس عندما ينفقون مما رزقهم الله على المحتاجين منهم, يندفعون إلى هذا وذاك بكل حماسة ٍوقوةٍ ونشاطٍ وشوقٍ لكسب رضوان الله من خلال هذه العبادة المالية وتلك العبادة الإلهية.

 ويقف في مقابل المتقين شريحة من الناس يؤدون الصلاة وهم كسالى, لمجرد أنه تقليدٌ اعتادوه في حياتهم, وينفقون على المحتاجين ولكن لا ينفقون إلا بعد أن تُحرجهم وتُكرههم على ذلك, ولذلك فقد أوحى الله بذم هذه الشريحة ولم يجعلهم من المتقين حيث يقول تعالى: (ولا يأتون الصلاة إلا وهم كُسالى ولا يُنفقون إلا وهم كارهون فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم إنما يريد الله ليُعذبهم بها في الحياة الدنيا وتزهق أنفسهم وهم كافرون) التوبة 54/55.

                               وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين