فتح مكة (26)

فتح مكة فتَحَ في الواقع صفحة جديدة في تاريخ الاسلام لان مركز الشرك تلاشى بهذا الفتح ،انهدمت الاصنام والاوثان وتبددت امال المشركين .تطهرت الجزيرة العربية من الشرك وظلمات الجاهلية ،وازيلت بذلك الموانع والسدود من طريق ايمان الناس بالاسلام ومن طريق انتشار الدعوة الاسلامية في بقية أجزاء هذا العالم .

 

بسم الله الرحمن الرحيم

يقول الله سبحانه وتعالى في سورة النصر : بسم الله الرحمن الرحيم ،اذا جاء نصر الله والفتح ورأيت الناس يدخلون في دين الله افواجا فسبح بحمد ربك واستغفره انه كان توابا .

هذه السورة الصغيرة تحمل البشرى لرسول الله (ص) بثلاثة امور : بنصر الله ، والفتح ، ودخول الناس في دين الله افواجا، وفي نفس الوقت توجه النبي والمسلمين الى طريقة التعامل مع النصر والفتح واسلوب التعبير عنهما ، فهي توجه النبي (ص) الى انه حين يتحقق نصر الله ويتحقق الفتح الاسلامي الكبير ويدخل الناس في دين الله افواجا إن عليه في هذه الحالات ان يتوجه الى الله بالتسبيح والحمد والاستغفار ، لا ان يشعر بالزهو والفرح الذي يدفع نحو الغرور او الاستعلاء والاستقواء على الاخرين ، والذي يظهر من القرائن ان المراد بالنصر في هذه السورة هو النصر على قريش العدو الاول والاساسي لرسول الله  وان المراد بالفتح فتح مكة.

فتح مكة الذي حدث في العشر الاواخر من شهر رمضان المبارك في السنة الثامنة الهجرية ،والذي استطاع النبي من خلاله ان يلحق الهزيمة بالاعداء بعد عشرين سنة من المقاومة .

 فتح مكة فتَحَ في الواقع صفحة جديدة في تاريخ الاسلام لان مركز الشرك تلاشى بهذا الفتح ،انهدمت الاصنام والاوثان وتبددت امال المشركين .تطهرت الجزيرة العربية من الشرك وظلمات الجاهلية ،وازيلت بذلك الموانع والسدود من طريق ايمان الناس بالاسلام ومن طريق انتشار الدعوة الاسلامية في بقية أجزاء هذا العالم .

ومن هنا يجب ان نعتبر فتح مكة بداية مرحلة تثبيت اسس الاسلام والاستقرارفي الجزيرة العربية ثم في العالم اجمع ،ولذلك لا نرى بعد فتح مكة مقاومة من المشركين سوى مرة واحدة قمعت بسرعة ،وكان الناس بعد هذا الفتح الكبير يفدون على النبي من كل انحاء الجزيرة العربية ليعلنوا اسلامهم .

ومن المفيد ان نتحدث هنا وبمناسبة الحديث عن هذه السورة عن اجواء هذا الفتح  والنصر الالهي الكبير والظروف السياسية المحيطة به .

من المعلوم انه في السنة السادسة الهجرية تم التوقيع على وثيقة صلح بين النبي والمسلمين من جهة وقريش من جهة اخرى ، وقد عرف هذا الصلح في التاريخ الاسلامي ب(صلح الحديبية ) وكان يقضي هذا الصلح بالدرجة الاولى بعدم تعرض احد الطرفين للاخر اولحلفاء الاخر ،وبعد مرور عامين تقريبا على توقيع هذه المعاهدة قرر النبي في السنة الثامنة الهجرية في شهر رمضان غزو قريش في عقر دارها في مكة وامر المسلمين بالاستعداد والتجهيز لذلك .

وكان من جملة دوافع واسباب اتخاذ هذا القرار من جانب النبي (ص):

 اولاً :ان المشركين عمدوا الى نقض العهد والى خرق بنود وثيقة الصلح ،واعتدوا على المتحالفين مع الرسول (ص) من قبيلة خزاعة،فشكى المتحالفون ذلك الى رسول الله فقرر (ص) ان ينطلق لحمايتهم .

وثانياً : ان مكة التي كانت تعتبر انذاك مركز الوثنية والاصنام والشرك والنفاق والتي كانت تعتبر القاعدة الاساسية لاعداء النبي كانت تمثل هدفاً لرسول الله لان النبي كان يعتبر ان الاسلام لا يمكن ان ينطلق بحرية في الجزيرة العربية وفي العالم  ما دامت مكة  تمثل قاعدة الشرك في المنطقة وما دامت مكة تحت سيطرة  المشركين والمنافقين وقريش ، فكانت مهمة تطهير مكة من الشرك والمشركين وظيفة لا بد من القيام بها في وقت من الاوقات لازالة الموانع والحواجز من طريق ايمان الناس بالاسلام وانتشار الدعوة الاسلامية في المنطقة ، وفي السنة الثامنة للهجرة كان الظروف التي تساعد على القيام بمثل هذه المهمة مهمة تطهير مكة من الشرك والاصنام قد توافرت، لان الانتكاسات المتلاحقة لمشركي مكة امام المسلمين ، كانت قد أضعفت قريشاً وجعلتها تقترب من مرحلة اليأس من التغلب على المسلمين هذا من جهة ومن جهة اخرى فان المسلمين في السنة الثامنة كان قد ازداد عددهم وقويت ارادتهم وكبرت امكاناتهم واصبحوا قادرين على اخذ زمام المبادرة والقيام بعمل عسكري كبير في عمق مركز قريش في مكة ،لذلك كله عندما حل شهر رمضان من السنة الثامنة الهجرية استعد النبي ومعه المسلمون للحركة بأمر من الله سبحانه  باتجاه مكة.

وانطلق النبي (ص) ومعه عشرة الاف من المسلمين باتجاه مكة وفتحت مكة بنصر من الله ،وقد تم هذا الفتح الكبير في ثلاث مراحل :

المرحلة التمهدية : وفيها تمت تعبئة القوى واختيار الزمان المناسب للتوجه الى مكة وجمع المعلومات  الكافية عن العدو واتخاذ الاجراءات اللازمة للحفاظ على سرية التحرك .

والمرحلة الثانية : كان الدخول الى مكة باسلوب مباغت باهر من دون وقوع خسائر في الارواح او في الممتلكات . فقد وصل المسلمون الى مشارف مكة وعسكروا عند مر الظهران وهي منطقة تبعد عدة كيلومترات من مدينة مكة ،وفي الليل اشعلوا نيران كثيرة لاثبات تواجدهم الواسع وكثرة عددهم ، وفي هذه الاثناء كانت اخبار الزحف الاسلامي لا تزال خافية على قريش واهل مكة ،وهذا هو الذي جعل عنصر المباغتة والمفاجئة يلعب  دورا اساسيا في فتح مكة من دون اراقة دماء او حصول مواجهة عسكرية ؟.

ودخل النبي مكة وأمر من ينادي في اهل مكة : من دخل دار ابي سفيان فهو آمن ، ومن القى سلاحه فهو آمن ،ومن دخل داره واغلق عليه بابه فهو آمن ، ثم توجه الى المسجد الحرام وهو يتلو سورة الفتح ،ثم كبر وكبر المسلمون معه فدوى صوت التكبير في ارجاء مكة .

وعندما وصل الى الكعبة جعل يسقط الاصنام واحداً بعد الاخر وهو يقول  : (جاء الحق وزهق الباطل ان الباطل كان زهوقا ) وكان عدد من الاصنام قد نصب فوق الكعبة ولم تصل اليها يد الرسول(ص) فأمر عليا ان يصعد ويرمي بها فصعد عليه السلام ورمى بها .

بعد الانتصار الرائع والسريع توجه النبي الى اهل مكة وقال لهم : يا معشر قريش ما ترون اني فاعلٌ بكم ؟   قالوا : خيراً ،اخ كريم ،وابن اخ كريم ،فقال (ص):  اذهبوا فانتم الطلقاء. اي قد عفوت عنكم .

وامر رسول الله (ص) جيشه ان لا يتعرضوا لاحد ،وان لا يسفكوا دم احد، وامر فقط بقتل ستة اشخاص حسب بعض الروايات ممن كانوا خطيرين ومستغرقين في عدائهم للاسلام .

وحين بلغه ان سعد بن عبادة وهو احد حملة الوية الجيش الاسلامي يصيح : ويقول : اليوم يوم الملحمة ،اليوم تسبى الحرمة ،امر عليا ان يأخذ منه الراية ويدخل بها مكة دخولا رقيقا لطيفا ويقول : اليوم يوم المرحمة .

وهكذا فتحت مكة من دون اراقة دماء ، لقد اتسع قلب الرسول (ص) لأهل مكة قاطبة وهم الذين كذبوه ،واهانوه،وعذبوا اتباعه،وطردوه ،وحاربوه وجمعوا له الجموع من العرب حتى غزوه في دار هجرته ، ومثلوا بعمه اقبح وابشع تمثيل، ومنعوه قبل عامين من دخول مكة لأداء مناسك الحج، وفعلوا معه ما لا تبيحه الاعراف والعادات وما لا يقبله منطق او ضمير ، ومع ذلك كله حينما مكنه الله منهم وجعله قادراً على قتلهم وتعذيبهم ومعاقبتهم منّ عليهم وعفى  عنهم عفوا عاماً وقال لهم: اذهبوا فانتم الطلقاء، واعلن ذلك اليوم بانه يوم المرحمة ، والعفو العام .

وهذا يدل على ان الاسلام دين الرحمة والعفو والصفح ، هذه الرحمة وهذا العفو الذي كان له الاثر الكبير في القلوب حيث دخل الناس في دين الله افواجاً وساعد كثيرا على انطلاق الاسلام وانتشاره . وهذا هو الدرس الكبير الذي ينبغي ان نتعلمه من فتح مكة لحاضرنا ومستقبلنا.

واخر دعوانا ان الحمد الله رب العالمين