اليهود يأمرون الناس بالمعروف وينسون أنفسهم (31)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(أتأمرون الناس بالبِر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقِلون).

هذه الآية تكشف عن ظاهرة سيئة ومنحرفة لدى اليهود يعيشونها في واقعهم وفي حياتهم وحركتهم العملية, وهي أنهم يأمرون الناس بالبر وبالإحسان وبالمعروف وبالارتباط بالله، ولكنهم ينسون أنفسهم فلا يتحركون باتجاه الأشياء التي يأمرون الناس بها.

فاليهود الذين كانوا يعيشون في عصر الإسلام كانوا قد جعلوا من أنفسهم حماة الكتاب الإلهي وحماة الشريعة الإلهية، ونصّبوا أنفسهم دعاةً إلى الدين والخير والاستقامة، وقادةً إلى الحق والعدل, بينما هم أبعدُ الناس عن كل هذه الأمور.

فقد كان اليهود مثلاً يأمرون العرب قبل مبعث النبي(ص) وقبل ظهور الإسلام كانوا يأمرون العرب بالإيمان برسالة محمد إذا خرج، فلما بعثه الله كفروا به وتمردوا عليه، وحاربوه.

وكان علماء اليهود يقولون لأقربائهم من المسلمين اثبتوا على ما أنتم عليه من الإيمان والإسلام، بينما هم لا يؤمنون بل مستغرقون في كفرهم وفي انحرافاتهم وفي مصالحهم الذاتية التافهة, وكانوا يأمرون الناس بطاعة الله والابتعاد عن معصيته, بينما كانوا هم يتركون طاعته ويتمردون عليه، ويعاندون الأنبياء والرُسل.

وكانوا يحمّلون الناس مسؤولية السير على خط الاستقامة في الحياة, ومسؤولية أن يعيشوا القلق والخوف على مصيرهم في الدنيا والآخرة, بينما هم يستثنون أنفسهم فلا يتحملون مسؤولية شيء من ذلك كله.

لقد كان هذا العمل هو ديدن اليهود في الماضي ولا يزال هذا العمل ديدنهم في الحاضر, فهم اليوم يمارسون نفس هذه الظاهرة وعلى أكثر من مستوى، وعلى أكثر من صعيد, فنجدهم عندما يحتل بلدٌ أرض بلد آخر يبادرون إلى إدانة الاحتلال بينما ينسون أنفسهم أنهم يحتلون جزءاً كبيراً وعزيزاً من العالم العربي والإسلامي في فلسطين والجولان ولبنان.

ونراهم كيف أنهم يُطلقون المبادرة تلو الأخرى لمكافحة ما يسمونه إرهاباً، ويوجِّهون الأوامر إلى هنا وهناك، لتخليص العالم من الإرهابيين عندما تتعرض مصالحُهم للخطر، بينما ينسون أنفسهم بأن دولتهم هي أم الإرهاب في العالم, وأنه إذا كان هناك من يمارس الإرهاب في هذا العالم فهو هم وأعوانهم ومن يقف من وراءهم.

عندما يتعرض جنودُهم وأعوانهم ومن يساندهم ويقف إلى جانبهم لأي خطر تراهم يظهرون بمظهر الدعاة إلى تجنيب الأبرياء القتل والإرهاب، بينما هم يمارسون الجرائم ويرتكبون المجازر ويعتدون بشكل يومي على الأبرياء والمدنيين في فلسطين وفي لبنان.

إن الابتعاد عن الخير والإحسان وممارسة الشر والإرهاب على مستوى العمل في نفس الوقت الذي يتوجه فيه الامر للآخرين بالبر والمعروف، هو ديدن اليهود وطبيعتهم وعقليتهم والواقع السيء الذي لا يمكن أن ينفصل عنهم.

إن الله تعالى في هذه الآية يوجه توبيخاً لليهود على هذا العمل، هو يوبخهم بصيغة السؤال الاستنكاري (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم). هذه الصيغة التي توحي بأن الله يستنكر عليهم هذا العمل أشد الاستنكار ويؤنبهم عليه, لأن الذي ينصب نفسه داعية خير وإحسان, والذي ينصب نفسه داعية إصلاح واستقامة, فإن عليه أن يقوم بالعمل أولاً، ثم بعد ذ لك يأمر الناس ويطلق التوجيهات والتعليمات للآخرين.

كما أن الذي يجعل من نفسه حامياً وحافظاً لدين الله وشريعة الله وحريصاً على اتباع خط الله والتزام طاعته، أن يعمل بطاعة الله وأن ينسجم مع دين الله أولاً، قبل أن يأمر الآخرين بذلك.

إذن منهج الدعاة إلى الله يقوم على أساس العمل أولاً ثم القول، فالداعية إلى الله وإلى خط الله وإلى طاعة الله يبلغ ذلك بعمله قبل قوله، كما جاء في الحديث عن الإمام الصادق (ع): "كونوا دعاة الناس بأعمالكم ولا تكونوا دعاةً بالسنتكم".

وليس المقصود من قوله (ع) ولا تكونوا دعاة بألسنتكم، أن لا تدعوا بالقول والكلام, بل المقصود أن لا تأمر الناس بما لا تفعله ولا تقوم به ولا تعيشه في حياتك, وأن لا تنهى الناس عن شيء لا تبتعد أنت عنه.

ومهما يكن فإن هذه الآية: (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم). وإن كان الاستنكار فيها موجهاً إلى اليهود كما ذكرنا, إلا أن لها مفهوماً واسعاً يشمل الآخرين أيضاً، فالله تعالى يستنكر هذا العمل من أي كان، فكل من امر الآخرين بطاعة أو بخير أو بإحسان أو بعدل أو باستقامة ثم نسي نفسه ولم يعمل بما أمر الناس به فهو ممن يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم، وكل إنسان ينهى الآخرين عن معصية أو شر أو إرهاب أو عدوان أو سلب حقوق، ثم يفعل ذلك ولا تنتهي نفسه عن هذه الأمور، فهو ممن يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم.

علي (ع) كان يقول: "أيها الناس إني والله ما أحُثُكم على طاعة إلا وأسبقُكم إليها، ولا أنهاكم عن معصية إلا وأتناهى قبلكم عنها.

إن المصير الذي ينتظر أولئك الذين لا ينسجم قولهم مع عملهم, فيأمرون بالعدل بين الناس ثم يتركونه ويرتكبون الظلم والعدوان, إن المصير الذي سيواجه هؤلاء هو ما تحدث عنه الإمام الصادق عندما قال: "إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة من وصف عدلاً وعمل بغيره".

وفي حديث آخر عنه أيضاً (ع) يقول لخيثمة وهو أحد  أصحابه: "ابلغ شيعتنا إن أعظم الناس حسرة يوم القيامة من وصف عدلاً ثم خالفه إلى غيره".

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين