دوافع وأهداف الإفتراء والاساءة لشخصية النبي(ص) (2)

سلسلة الاساءات والاهانات التي تعرض لها النبي تحت ذريعة حرية التعبير لم تكن عملاً فردياً كما يحاول البعضُ أن يروج، بل هي عملٌ تقف وراءه دولٌ غربية وأجهزةُ استخبارات عالمية، وفي مقدمها الولايات المتحدة الأمريكية التي سمحت بإنتاج هذا النوع من الأعمال وعرضِها ونشرِها بحجة حرية التعبير.

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد بن عبد الله وعلى آله الطيبين الطاهرين.

قلنا في الحلقة الماضية إن شخصية النبي(ص) وسيرتَه العطرة تعرضتا لكثير من الافتراء والتشويه والاساة قديما وحديثا .

وقد ذكرنا شواهد ونماذج من هذا الافتراء وتلك الاساءة سواء التي صدرت في التاريخ أو في الحاضر.

والسؤال الذي يطرح في هذا المجال هو: لماذا كل هذا الافتراء على شخصية النبي وسيرته؟ وما هي أهدافُه وغاياتُه ؟

بطبيعة الحال فان الاهداف تختلف من مرحلة الى مرحلة فاهداف الاساءة لدى بعض الحكام الامويين في التاريخ تختلف عن اهداف الاساءة لدى المستشرقين والغربيين التي صدرت مؤخراً وان كانت تلتقي اهداف هؤلاء مع اهداف اولئك عند نقطة واحدة ومشتركة هي تشويه صورة النبي(ص) كمقدمة للنيل من صورة الاسلام والعقيدة الاسلامية والقران.

والحقيقة : ان الافتراء على النبي(ص)  قديما لا سيما في العصر الاموي لم يكن عفوياً أو مرتجلاً, بل كان وليد خطة معدة مسبقاً ولعل من اهم اهدافها :

أولاً: تبرير انحرافات الحكام, فانهم من خلال تشويههم لمعالم شخصية رسول الله ونسبةِ ما لا يليق به إليه من المواقف والتصرفات يستطيعون من خلال ذلك تبريرَ كلِ انحرافاتهم وتفاهاتهم وتصرفاتهم وسياساتهم السيئة, ويقللون من خلال ذلك من بشاعة ما يرتكبونه من انحرافات في أعين الناس, على اعتبار أنه ليس هناك فرق كبير بين تصرفات هؤلاء وبين تصرفات ومواقف الرجل القدوةِ والأسوة.

وثانيا: أنه لم تكن لدى الكثيرين من الحكام القناعة الكافية بأن محمداً(ص) نبي مرسل حقاً. وإنما كانوا يعتبرونه ملكاً أو حاكماً تولى أمور الناس في مرحلة زمنية ثم رحل, وهذا ما عبر عنه صراحة يزيدُ بنُ معاوية عندما تمثل بقول الشاعر:

   لعبت هاشمُ بالملك فلا                     خبرٌ جاء ولا وحيٌ نزل

كما أن الوليدَ بنَ يزيد كان يقول وهو يشير إلى رسول الله وإلى عدم اقتناعه بما جاء به:

   تلعب بالخلافة هاشمي                     بلا وحي أتاه ولا كتاب

   فقل لله يمنعني طعامي                    وقل لله يمنعني شرابي

وثالثاً: أنه كان لديهم حقد كبير على رسول الله وبغضٌ حقيقي له, وذلك بسبب ما فعله بآبائهم وأخوانهم وعشائرهم الذين حاربوا الإسلام في بدر وأحد وغيرِها فأرادوا أن يشوهوا صورةَ النبي وسيرتَه تنفيساً عن أحقادهم الدفينة.

   هذه هي بعض الأسباب والدوافع التي جعلت بعض الحكام في التاريخ يُقدمون على ارتكاب خيانة الاساءة للنبي(ص).

اما سلسلة الاساءات والاهانات التي تعرض لها النبي في السنوات الاخيرة والتي كان اخرَهَا الفيلمُ المسيء الذي صدر في الولايات المتحدة الامريكية والرسومُ الكاركتورية التي نشرت في فرنسا تحت ذريعة حرية التعبير فهذه ايضا لم تكنعملاً فردياً كما يحاول البعضُ أن يروج، بل هي عملٌ تقف وراءه دولٌ غربية وأجهزةُ استخبارات عالمية، وفي مقدمها الولايات المتحدة الأمريكية التي سمحت بإنتاج هذا النوع من الأعمال وعرضِها ونشرِها بحجة حرية التعبير.

لقد أسقطت هذه الأعمال القناع عن الوجه الحقيقي للغرب، وكشفت عن كنه العداء الذي يضمرونه للإسلام بل ولكل ما هو مقدس وديني.

ولعل من الأهداف الخطيرة لهذا النوع من الإهانات التي يُوضع في واجهتها ـ أحياناً ـ جمعياتٌ مسيحية ورجالُ دينٍ مسيحيون هو إيقاعَ الفتنة بين المسلمين والمسيحيين، وجرَّ المسلمين والمسيحيين إلى صراع ديني طائفي دموي، وإضعافَ الإيمان الديني لدى الشعوب، وإبعادَهم عن رموزهم ومقدساتهم حتى لا تبقى مصدر قوتهم ووحدتهم وتماسكهم.

وثمة خشية حقيقية من أن يكون الفيلمُ المسيء الذي صدر مؤخراً في الولايات المتحدة أداةً في استراتيجية الحرب الناعمة التي تقودها الإدارة الأميركية ضد الإسلام وشعوبِ المنطقة، ومقدمةً لسلسلة أخرى من الإساءات التي يمكن إدراجُها في سياق هذه الحرب بغية تحقيق الأهداف المذكورة وغيرها..

ولكن حتى الآن يمكننا القول إنه تم بحمد الله تعطيل هذه الأهداف بفعل طريقة تعاطي الناس والقادة الروحيين والسياسيين، من مسلمين ومسيحيين، مع هذا النوع من الإساءات.. حيث إن خروج الملايين على امتداد العالمين العربي والإسلامي للتعبير عن استنكارهم لتلك الإهانات من جهة واحترامِهم وتقديسِهم لنبي الإسلام من جهة أخرى، ومسارعةَ قادةٍ مسيحيين دينيين وسياسيين، وفي مقدمهم البطاركةُ الكبار في المشرق، إلى إدانة الفيلم المسيء، واعتبارهم أن الإساءة للإسلام ولنبي الإسلام هي إساءة للمسيح وللمسيحية،  ان كل هذا كان له أثر بالغ في تعطيل هذه الأهداف الخطيرة.

بل إن محاولة الإساءة من خلال الفيلم السينمائي الأميركي أعطت مفعولاً معاكساً للنيات والأهداف التي كان يضمرها الأمريكيون والصهاينة، بعدما جرى تحويل هذه القضية، بفعل وعي الناس والقادة، من مشروع انقسام وفتنة إلى مناسبة لتأكيد الوحدة على المستوى الإسلامي الاسلامي، وعلى المستوى الإسلامي المسيحي.

وخلافاً لكل ما قيل أو قد يقال في الغرب وفي غيره تحت عنوان حرية التعبير أو حرية الرأي للنيل من الشخصية الإنسانية لرسول الله (ص).. فإن سيرة هذا النبي العظيم (ص) تكشف عن كماله وسموه الإنساني، وعن سلوك حضاري لم يعرف التاريخ مثيلاً له.

فقد عُرفت هذه الشخصية برجاحة العقل، وأصالة الفكر، وقوة الحكمة، وحسن التدبير، واشتُهرت بالطهر، والصدق، والأمانة، والعفاف، وامتازت بالأخلاق الإنسانية السامية، وبحسن معاشرتها للناس ومعاملتهم بالرفق، واللين، والرحمة، والعفو، والتسامح، والتواضع، والترفع عن إساءاتهم وتجاوزاتهم.

بل إن من يلقي نظرة على تاريخ النبي سيجد أنه (ص) كان قمة في الرحمة، والعطف، والحنان، واللين، وأنه كان أشفق الناس على الناس وأرأف الناس بالناس، ولأجل ذلك فقد اعتبر القرآن هذه الخصائص والصفات من أبرز معالم شخصيته الرسالية.

وقد قال الله تعالى وهو يصف رحمة النبي : [فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك].

وقال سبحانه: [لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم].

وقال عز وجل: [وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين].

ويقول النبي (ص) عن نفسه : "إنما أنا رحمة مهداة"(4).

وعندما قيل له (ص) ادع على المشركين قال: "إني لم أبعث لعّاناً وإنّما بعثت رحمة"(5).

وقد شملت رحمته الجميع.. الرجال والنساء، والكبار، والصغار، الأصحاب والأعداء، في السلم وفي الحرب، في الإدارة والسياسة وفي مختلف المواقع.

 ومن عظيم رحمته التي خلدها التاريخ أنه عفى عن أهل مكة يوم الفتح، ووقف منهم موقفاً رحيماً، بالرغم من كل العذاب والآلام والمعاناة وأنواع الأذى التي واجهته بها قريش قبل الهجرة وبعدها، وبالرغم من مؤامراتها وحروبها وعدوانها وإرهابها الذي مارسته بحق المسلمين.

فقد وقف (ص) على باب الكعبة بعد الفتح مخاطباً أهل مكة: ما ترون أني فاعل بكم؟

قالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم.

قال: فإني أقول لكم كما قال يوسف: لا تثريب عليكم، اليوم يغفر الله لكم، وهو أرحم الراحمين، اذهبوا فأنتم الطلقاء.

وعندما قال أحد أصحابه: اليوم يوم الملحمة، اليوم تسبى الحرمة.

قال (ص): اليوم يوم المرحمة، اليوم تراعى الحرمة.

بهذه النفس الرحيمة وبهذا الخلق الإنساني الرفيع يعامل رسول الله (ص) أشد الناس عداوة له بعد أن تمكن منهم ومن رقابهم.

إن هذا الخلق النبوي الأصيل، لم ولن تستطيع أن تنال منه لا محاولات التشويه التي جرت في التاريخ ولا كل الإساءات التي جرت في الحاضر أو تلك التي يمكن أن تصدر في المستقبل.

   وكما قال الله تعالى:"يريدون أن يطفؤوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون".

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين

 


(4) ـ مستدرك الحاكم: ج1، ص 35.

(5) ـ صحيح مسلم: