معركة "أُحد" كانت التحدي في تثبيت طاعة الولاية والقيادة(41)

معركة أُحُد أحداثٌ وعبر (41)

غزوة أحد خسر فيها المسلمونفي السنة الثالثة بعد هجرة النبي (ص) إلى المدينة، وفي شهر شوالَ بالتحديد، كانت معركة أحد, وأحدٌ هو اسم للمكان الذي وقعت فيه هذه المعركةُ بين المسلمين ومشركي مكة, وهو أساساً اسمُ جبل يبعد عن المدينة المنورة بضعة كيلومترات سميت المِنْطَقَةُ باسمه.

 

كان المشركون هم الذين بادروا إلى إعلان هذه الحرب, وقرروا مهاجمة المسلمين في  المدينة, ردّاً على الهزيمة التي مُنُوا بها أمام المسلمين في معركة بدر .

ويمكن أن نقول: إن الدافع الذي دفع المشركين إلى هذه الحرب أمران:

الأمرُ الأول: هو الثأرُ من المسلمين لهزيمتهم وقتلاهم في بدر, لأن نتائج حرب بدر كانت قاسيةً على مشركي مكة, وقريشٌ لا يمكنُ أن تهدأ حتى تثأرَ لكرامتها ولمن قُتلَ في بدر من رجالها وأشرافها وزعمائها.
الأمر الثاني: هو فكُ الحصارِ الذي بدأ يفرِضُهُ النبيُ(ص) والمسلمون على تجارة قريش, حيث إن طريق رحلاتهم التجارية إلى الشام كانت تمر بالقرب من المدينة, وكان النبيُ(ص) قد عقد عدة اتفاقياتِ تعاونٍ مع القبائل المتواجدةِ في المنطقة, وأصبح يسيطر على طريق تجارة قريش, ولم يعد الطريقُ إلى الشام آمناً بالنسبة إليها, وأصبحت ترى نفسها بين فكي كَمَّاشة, فلا بد لها إذن من كسر هذا الطوق وتجاوزِ هذا المأزق عن طريق محاربة النبي(ص) في بلده.

وهكذا قرر المشركون محاربةَ النبي(ص) والزحفَ باتجاه المدينة, فجمعوا المال وعبأوا كلَ قوتهم وخرجوا من مكة باتجاه المدينة بقيادة أبي سفيان, وكان عددُهُم ثلاثةَ آلافِ رجل, معهم السلاحُ والعتاد وأخرجوا النساء معهم ليشجعن الجنود على القتال, وانطلقوا حتى وصلوا إلى منطقة أحد التي تقع على مشارف المدينة, حيث أقاموا معسكرهم هناك.

لقطة من فيلم الرسالة حيث كان المسلمون يتحضرون لمعركة أحدوكان النبيُ(ص) قد عَرَفَ بمسير المشركين من خلال عيونه في مكة, ويقال: إن العباسَ بنَ عبد المطلب عمَّ النبي الذي كان يرصد للنبي في مكة كل المواقف والخطط المعادية لقريش, هو الذي أخبره بقرار المشركين وعزمِهم على التوجه إلى المدينة لمحاربته, حيث كتبَ إلى النبي(ص) رسالةً يخبره فيها بتفاصيل خطة المشركين ليكون على أُهبة الاستعداد وقد بعث الرسالةَ مع رجل غُفاري وأوصاه بالكتمان وبالإسراع في السير للوصول إلى المدينة في ثلاثة أيام, فوصل الرجل وسلمَ الرسالةَ إلى النبي.

فجمع رسولُ الله المسلمين وأعلن التعبئة العامة في صفوفهم من أجل الاستعداد للدفاع, وبث النبيُ(ص) رجالَ الاستطلاع في منطقة تواجد العدو لجمع المعلومات عن تحركاته ومخططاته وحجم قواته وعتاده, وبعدما حصل على هذا النوع من المعلومات استشار أصحابه في سبل التصدي لهذا العدو.

وكان السؤال : هل يتمُ التصدي للأعداء من داخل المدينة أم من خارجها؟ وبعد أخذ ورد توزعت أراءُ المسلمين بين موقفين:

الموقفُ الأول: كان يقضي بعدم الخروج من المدينة, أي البقاءُ في داخلها ومواجهةُ المشركين منها بعد استحداث تحصينات على أبوابها وحدودها استعداداً للمعركة, وهذا الموقف تبناه المنافقون وفي مقدمتهم رئيسُهُم عبدُ الله بنُ أبيّ, لأهداف ونوايا خبيثة ومُبيته.

الموقفُ الثاني: كان يقضي بالخروج إلى قتال العدو خارج المدينة, وذلك من أجل حماية المدينة من التخريب والدمار من جهة, ومن جهة ثانية: حتى لا يفرِضَ العدوُ حصاراً عليها, ومن جهة ثالثة: تلافياً لأخطار متوقعة من اليهود والمنافقين في الداخل المتعاطفين سراً مع العدو والذين يمكنُ أن يستغلوا فُرصَةَ الحصار لإثارة البلبلة في صفوف المسلمين لتفجير الوضع من الداخل.

ولعلّه لأجل كلِ ذلك اختارَ النبيُ(ص) هذا الموقفَ الثاني, واستقرَّ الرأيُ على مواجهة المشركين خارجَ المدينة, وبعد أن أتمَّ النبيُ(ص) والمسلمون الاستعدادات والتجهيزات اللازمة للمعركة, تحرك الجيش الإسلامي من المدينة في نحو ألفِ مقاتلٍ من المهاجرين والأنصار وحتى المنافقين, ولكن حين بلغ المسلمون منتصفَ الطريق بين المدينة وأُحد انسحبَ زعيمُ المنافقين عبدُ الله بنُ أبيّ بثلث الجيش, أي بنحو ثلاثِمِائة من المنافقين عائداً إلى المدينة بحجةَ أن  النبيَ(ص) خالف رأيَهم الداعي إلى قتال العدو داخل المدينة, وعمل برأي الآخرين القاضي بمواجهة العدو خارجَ المدينة. وفي رواية ثانية تقول: إن النبي نفسَهُ أمر المنافقين في جيشه بالعودة إلى المدينة ولم يقبلْ أن يقاتلوا معه وأنه قال(ص): لا نحاربُ المشركين بالمشركين.

الرسول (ص) يردّ المنافقين إلى المدينة :

خريطة لمعركة أحدولعل هذه الروايةَ أقربُ إلى الواقع, لأن النبي(ص) بعد أن رأى أَلاَعِيبَ المنافقين في إضعاف معنويات المسلمين, أمرهم بالرجوع لأن وجودهم كان يشكل نقطةَ ضَعفٍ في جيشه, يمكنُ أن تَقلِبَ موازينَ المعركة بين لحظة وأخرى, فالمنافقون عنصرُ هزيمةٍ وخِذْلاَن في المعركة, نظراً لما يملكون من نوايا غدر ومكرٍ ونفاق, فوجودُهُم خارجَ الجيش خيرٌ من وجودِهم فيه.

وهكذا بعد أن رَجَعَ المنافقون بقي النبيُ(ص) في سَبعِمِائَةِ مقاتلٍ من أصحابه, ويقول المؤرخون: إنه لما وصل النبيُ(ص) إلى مِنْطَقَةِ القتال في أحد, اختار أن يتمركزَ الجيشُ إلى جانب جبل أُحد بحيث يكون ظهرُهُم إلى الجبل, وكان على يسار موقع المسلمين جبلٌ اسمُهُ جبلُ عِيْنِيْن, وكانت فيه ثُغرةٌ يمكنُ أن ينفذَ من خلالها العدو ويلتفَّ على المسلمين, فجعلَ النبيُ(ص) على هذا الجبل خمسينَ مقاتلاً من الرُماة, وأمرهم أن يبقوا في أماكنهم مهما حدث, وقال لهم فيما يُروىَ عنه (ص): إحموا ظهورنا فإن رأيتمونا نُقتلُ فلا تنصرونا وإن رأيتمونا قد غنمنا فلا تَشْرَكُونَا.

وهكذا التقى الفريقان في أرض أحد وبدأت المعركة كأشد ما تكون وانتصرَ المسلمون في الجولة الأولى, ولاحقوا فلول المشركين وخُيِّلَ للجميع أن المعركة قد انتهت وبدأ المسلمون بجمع الغنائم, وعندما رأى أولئك الرُماة الذين أمرهم النبيُ(ص) أن يَثبُتُوا في مواقعهم مهما حدث, عندما رأَوا أن إخوانهم بدأوا يحصلون على الغنائم اختلفوا فيما بينهم فقال بعضُهم: فلننزل لنشارك إخواننا في الغنيمة, وقال البعضُ الآخر: لا ننزل لأن رسول الله أمرنا أن نبقى في مواقعنا, وهكذا انسحب البعضُ وخالفَ أمرَ النبي من أجل الحصول على الغنيمة, وثَبَتَ البعضُ الآخر امتثالاً للتكليف.

المسلمون يخسرون المعركة :

ولكن من ثَبَتُوا كانوا قلة وهنا لاحظ بعضُ المشركين أن هذا الموقعَ قد ضَعُفَ وأنه يمكنُ من خلاله الالتفافُ على المسلمين, فهجموا على من ثَبَتَ في الموقع فقتلوهم والتفوا على المسلمين من خلفهم وهم مشغولون بجمع الغنائم, وعندما رأى المشركون الفارون من ساحة المعركة أن أصحابهم عاودوا القتالَ من جديد, رَجَعُوا وأعادوا الهجوم على المسلمين وهكذا انكسر المسلمون بعد انتصار, حتى إن رسولَ الله (ص) جُرحَ في جبهته الشريفة وكُسرتْ رُباعيةُ أسنانه وسقطَ مُدْمَى، وصاحَ بعضُ المشركين لقد قتل محمد, مما زاد من جرأة العدو وتشتتِ وضياعِ المسلمين. فسقط في هذه المعركة نحو سبعينَ شهيداً من المسلمين, في مقدمتهم سيدُ الشهداء حمزةُ بنُ عبد المطلب عمُّ النبي رضوان الله تعالى عليه.

استشهد عم النبي حمزة بن عبد المطلبولعل قيمة هذه المعركة أنها جمعت للمسلمين النصرَ والهزيمة وعاش المسلمون فيها شروطَ النصر في بدايتها وشروطَ الهزيمة في نهايتها, ومن جملة ما نستفيدُهُ من دروس هذه المعركة هو: أن الله يعطي الناس النصر إذا أخذوا بأسباب النصر وبشروط النصر, أي إذا التزموا بالصبر والثبات واحترموا خطط المعركة ولم يتنازعوا أو يقعوا تحت تأثير مطامِعِهم الشخصية, لقد انتصر المسلمون في أُحُد عندما نفذوا خطط المعركة بدقة وعاشوا الانضباطَ أمام أوامر القيادة, ولكنَّ موازينَ النصر انقلبت لمصلحة الآخرين عندما تخلى المسلمون عن مواقعهم وخالفوا أوامر القيادة وتنازعوا حول الغنائم والمكاسبِ الخاصة والدنيوية.

وهذا ما يجب أن نستفيدَه من دروس هذه المعركة لنوظفَه في معاركنا مع أعدائنا, وهو أن على المؤمنين أن لا يتنازعوا عندما يخوضون معركةَ الحق في مواجهة الباطل, ومعركةَ الجهاد في مواجهة المستكبرين والظالمين والمحتلين, على المسلمين إذا أرادوا الانتصار أن يكونوا صفاً واحداً, صفاً واحداً في الاخلاص للقضية وللهدف وللأمة, وأن يكونوا صفاً واحداً في الانضباط أمام أوامر القيادة وفي الانسجام مع الخطة  الحكيمة.

الشيخ علي دعموش