حبط الأعمال (62)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(ولا يزالون يقاتلونكم حتى يرُدُّوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمُت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالُهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) البقرة/217.

هذه الآية تقرر حقيقة واقعية هي أن هدف المشركين هو القضاء على الإسلام وأن لا يبقى للإسلام عين ولا أثر في هذا العالم، ومن أجل ذلك فهم يقاتلون المسلمين ويداومون على قتالهم ويستخدمون كافة أساليب الضغط في محاربتهم ومواجهتهم حتى يرتدوا عن دينهم ويتخلوا عن إسلامهم وإيمانهم، ويعودوا كفاراً على مستوى العقيدة والعمل والممارسة.

ثم تحذر الآية المسلمين الذين قد يستسلمون أمام الضغط الذي تمارسه قوى الشرك عليهم، فيرتدون عن دينهم، وتعرفهم خطورة الارتداد والتخلي عن الدين بعد الإيمان به، وتقول: الارتداد عن الإسلام والرجوع إلى حالة الكفر والموت على هذه الحالة، يبطل أعمال الإنسان في الدنيا والآخرة ويؤدي بالإنسان إلى الخلود في النار والعذاب، تقول الآية: ومن يرتدد منكم عن دينه فيمُت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالُهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون).

إذن فالآية تحذر من الارتداد باعتباره أحد عوامل وأسباب إبطال وإحباط أعمال الإنسان.

وبمناسبة الحديث عن هذه الآية نتحدث عن إحباط الأعمال وأهم عوامل وأسباب الإحباط التي اشار إليها القرآن الكريم في هذه الآية وفي غيرها من الآيات.

الحَبطُ هو بطلان العمل وسقوط تأثيره، بمعنى أن الأعمال الحسنة والخيرة التي قام بها الإنسان تفقِد تأثيرها في سعادة الإنسان ويبطل ثوابها على أثر ارتكابه لذنوب لاحقة، والحبط إنما يتعلق بالأعمال التي لها جهة حسن, أي بالأعمال الصالحة والحسنة التي يفعلها الإنسان, فالأعمال الحسنة والخيرة هي التي تبطل وتفقد قيمتها في حال أرتكاب بعض الذنوب.

جاء في الحديث عن رسول الله (ص) أنه قال: كل من يقول: سبحان الله يغرس الله له في الجنة شجرة، وكل من يقول: الحمد لله يغرس الله له في الجنة شجرة، وكل من يقول: لا إله إلا الله يغرس له الله شجرة في الجنة، وكل من يقول: الله أكبر، يغرس الله له شجرة في الجنة.

فقال له رجل من قريش: إذن اشجارنا في الجنة كثيرة. فأجاب النبي (ص): نعم، ولكن حاذروا أن تبعثوا إليها ناراً تحرقها عن بكرة أبيها، وكما قال الله سبحانه: (يا ايها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم).

أي كما تزرعون بأعمالكم الحسنة أشجاراً في الجنة، فإنكم بأعمالكم السيئة تضرمون ناراً تحرقون بها تلك الحسنات التي تعبتم في تحقيقها.

والذي يستفاد من القرآن الكريم والآيات المختلفة أن هناك نوعاً من الذنوب والمعاصي تؤدي إلى حبط العمل وإفساده, وهذا النوع من الذنوب يعتبر من أهم عوامل إحباط وإفساد الأعمال وبطلانها.

ويأتي في مقدمة هذه الذنوب ذنب الارتداد عن الإسلام والإيمان, كما أشارت إليه الآية التي نفسرها، فالرجوع من الإيمان إلى الكفر يؤدي إلى حبط أعمال الإنسان في الدنيا والآخرة، وبناءاً على هذا تحبط كل أعمال الإنسان إن مات وهو كافر، باعتبار أن ذنب الارتداد عظيم إلى درجة كبيرة تغطي على كل الحسنات والأعمال الصالحة السابقة.

ومن جملة المعاصي التي تبطل الأعمال وتفسد الحسنات، في الدنيا والآخرة، الكفر بآيات الله والجحود بالحق ومعاندة الحق، ولا يكون الجحود إلا في الحالة التي يدرك فيها الإنسان الحق ومع ذلك فهو يخالفه ويتمرد عليه ولا يسلم به، وبعبارة أخرى: الجحود هو أن يسلم العقل والفكر بالحق بسبب المنطق والدليل والبرهان وتصبح الحقيقة واضحة جلية لديه ولكن روح الإنسان وإحساسه يأبيان التسليم والإذعان للحق تعالياً وتكبراً عليه.

فإذا كان الإنسان يملك روحاً كافرة متمردة على الحق في الوقت الذي يعرف فيه الحقيقة ويدركها تماماً ويفهمها تماماً، هذا الإنسان تحبط جميع أعماله الخيرة وتبطل جميع حسناته، بمعنى أن اعمال الخير التي قد يقوم بها الكافر والجاحد أحياناً، كالإنفاق الذي ينفقه على بعض المحتاجين أو كالمؤسسات الخيرية التي ينشأها لمساعدة الناس، مثل المستشفيات والمصحات ومؤسسات رعاية الأيتام والعجزة والخدمات الإنسانية التي قد يقدمها على أكثر من صعيد, كل هذه الأعمال تفقد قيمتها وآثارها بالكفر والعناد والجحود الذي يمارسه الإنسان تجاه الحق والحقيقة. قال تعالى: (إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق، ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة) آل عمران/22.

إذن الذين يرتكبون هذه الأعمال الثلاثة الكفر بآيات الله، وقتل الأنبياء، وقتل المصلحين والمجاهدين من أتباعهم، هؤلاء مهما كانت لهم أعمال حسنة في هذه الحياة، فإنهم بارتكابهم جريمة الكفر والقتل للأنبياء والمجاهدين يفسدون أعمالهم الحسنة وتموت حسناتهم جميعها فلا يعود لها أي أثر إيجابي على حياتهم في الدنيا والآخرة.

ومن الذنوب التي تؤدي إلى إحباط وإبطال أعمال الإنسان أو على الأقل تهدد أعمال الإنسان بخطر الفساد والبطلان، الرياءُ والمنُ والأذى الذي يلحقه الإنسان بالآخرين، كما يقول القرآن الكريم: (يا ايها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والاذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر) البقرة/264.

ففي هذه الآية ذكر الله عاملين وذنبين لبطلان العمل: الأول المن والأذى, والآخر الرياء والكفر، والمن والأذى يأتي بعد صدور العمل، والرياء يأتي مقترناً بالعمل ومعه وكلا هذين الأمرين يحرق الأعمال الصالحة.

ومن الذنوب التي تؤدي إلى إفساد الاعمال وإبطال آثار ونتائج الأعمال، ما ذكرته بعض الأحاديث المروية عن رسول الله (ص)، كالعُجب مثلاً، فإن العُجب عامل من عوامل إحباط آثار العمل ونتائج العمل.

ففي الحديث: "أن العجب يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب".

وكالحسد أيضاً فإن الحسد يعتبر أيضاً أحد أسباب إفساد الأعمال الحسنة وآثارها. فقد ورد عن الرسول الأكرم (ص) أنه قال: "إياكم والحسد، فإن الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب".

والخلاصة: إن هناك بعض الذنوب والسيئات تمحو كل الحسنات والأعمال الصالحة التي يفعلها الإنسان في حياته، سواء كانت أعمالاً عبادية أو أعمالاً خيرية تدخل في دائرة المعروف والإحسان للآخرين.

ويأتي في مقدمة هذه المعاصي والذنوب ذنب الكفر والارتداد, حيث إن الكفر والارتداد عن الدين الإلهي الحق، يفسد أعمال الإنسان ويبطل آثارها في الدنيا والآخرة، كما ذكرت الآية, تقول الآية: (ومن يرتدد منكم عن دينه فيمُت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة).

فالارتداد يوجب بطلان وفساد آثار أعمال الإنسان في الدنيا والآخرة معاً، بحيث إن الأعمال الخيرة التي لها آثار حسنة ونتائج إيجابية في حياة الإنسان وفي آخرته، تموت وتبطل تلك الآثار فلا يعود العمل مولداً لتلك الآثار والنتائج.

وتوضيح ذلك أن الأعمال الصالحة لها آثار ونتائج إيجابية تؤثر في سعادة الإنسان في الدنيا وفي الآخرة، مثلاً: الصدقة على الفقراء والمحتاجين لها أثر في الحياة الدنيا وأثرها في هذه الحياة هو أنها تدفع البلاء والمكروه والشر عن الإنسان المتصدق، ولها أثر في الآخرة هو الثواب والنعيم والأجر الذي يناله المتصدق في الآخرة جزاءاً لتصدقه.

وصلة الأرحام مثلاً لها نتائج إيجابية في هذه الدنيا على الإنسان, فالذي يصل رحمه يطيل الله في عمره ويوسع عليه في رزقه كما في بعض الأحاديث، وفي الآخرة فإن لهذا العمل ثوابه الخاص الذي يعد بالخير والسعادة على الإنسان.

المشاريع الخيرية التي يقوم بها الإنسان في الدنيا, كبناء المستشفيات وتقديم الخدمات للناس والمحتاجين لها آثار إيجابية تنعكس على سعادة الإنسان في هذه الحياة وتوجب له سمعة طيبة، ولها أجرها الخاص في الآخرة أيضاً.

إذن الأعمال الحسنة الخيرة الصالحة لها آثار إيجابية تعود بالخير والسعادة على الإنسان في الحياة الدنيا وفي الحياة الآخرة.

آثار الأعمال هذه ونتائج الأعمال هذه تفسد وتموت وتبطل إذا ارتكب الإنسان بعض الذنوب كالارتداد عن الدين.

فالمرتد إن مات كافراً حبطت أعماله في الدنيا والآخرة، بمعنى أن آثار ونتائج أعماله الحسنة السابقة تبطل وتفسد بآفة الارتداد, فمشاريعه الخيرة التي صنعها في الدنيا قبل الارتداد تموت آثارها, فهو كان يتوقع أن تعود عليه بالسمعة الحسنة ولكن هذا الاثر وهذه السمعة تزول، وإنفاقه الذي أنفقه على المحتاجين كان له أثر في أطالة عمره, وهذا الأثر بطل بعد أن ارتد عن دينه.

فالارتداد والكفر يوجب بطلان آثار الأعمال الحسنة والعمل الذي يعمله الكافر والمرتد لا يعود مؤثراً في سعادة حياته, بل تتحول حياته إلى عذاب وشقاء وضيق وتعب, ولذلك يقول تعالى: (ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى)  طه/ 124.

فالآية تبين أن أعمال الكافر وحياته في الدنيا ضنك, ضيقة متعبة. أما في الآخرة فلا أثر لكل أعماله فإن الله يحشره أعمى، وليس له إلا المصير السيء.

إذن هذا النوع من المعاصي والذنوب يفسد آثار الأعمال الصالحة والحسنة في الدنيا والآخرة.

ومن هنا ندرك أن أهم شرط لبقاء آثار الأعمال هو أن يحافظ الإنسان على إيمانه والتزامه إلى آخر عمره، وأن لا يفسد أعماله الصالحة السابقة بذنوب لاحقة، كذنب الرياء والعجب والحسد وما شاكل ذلك، ولذلك فقد ورد عن الإمام الباقر (ع) أنه قال: "الإبقاء على العمل أشد من العمل. فقيل له: وما الإبقاء على العمل؟ قال: يصل الرجل بصلة وينفق نفقة لله وحده لا شريك له، فتكتب له سراً؟ ثم يذكرها فتمحى فتكتب له علانية، ثم يذكرها فتمحى وتكتب له رياءً".

ومعناه أنه إذا كتبت له النفقة رياءً بطل عمله فكأنه لم يعمل شيئاً, ولذلك فإن على الإنسان أن يحذر من ارتكاب الذنوب التي تفسد الأعمال الحسنة، وأن يحافظ على أعماله الصالحة العبادية وغيرها من الفساد بالابتعاد عن هذه الذنوب.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين