اليمين اللغو واليمين الجاد (61)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم والله غفور حليم) البقرة/223.

الآية التي سبقت هذه الآية أكدت كما قلنا في الحلقة الماضية أنه لا ينبغي للإنسان أن يحلف بالله على كل شيء حتى ولو كان صادقاً فيما حلف عليه.

كما حذرت من وضع الله في معرض الحلف والقسم واتخاذ اسمه مانعاً وحاجزاً دون القيام بأعمال البر والإصلاح بين الناس، او اتخاذه حجة ومبرراً لترك الأعمال الصالحة، أو القيام بالأعمال التي لا يرضى الله عنها.

والقسم بالله وإن لم يكن عملاً محرماً في الإسلام إلا أن الإسلام لا يحبذ ولا يشجع عليه، ويعتبر الإكثار من اليمين من العادات السيئة المكروهة في التشريع, لأنها تمثل إساءة غير مقصودة لاسم الله فيما يمثله ذلك من التلاعب والاستهانة به.

والآية التي قرأناها في بداية الحديث تشير إلى نوعين من القسم:

الاول: اليمين اللغو وهو ما اعتاد الناس أن يرددوه على ألسنتهم من دون التفات ولا قصد ولا إرادة جدية, مثل قولهم: لا والله, وبلى والله, أو والله كذا، فإن هذا النوع من القسم يرددونه الناس في كلماتهم وفي محاورات وأثناء النقاش، واعتادوا أن يطلقوه في المحاورات وبخاصة عند البيع والشراء وما اشبه ذلك, وقد سمي هذا النوع من اليمين لغواً, وإنما سمي بذلك لأنه لا هدف له ولم يطلقه المتكلم عن عزم وقصد، وكل كلام لا هدف له ولم يصدر عن الإنسان عن عزم وقرار فهو لغو.

ومن هنا فقد اعتبر بعض المفسرين القسم الصادر عن الإنسان حين الغضب والإنفعال، لغواً إذا أخرجه الغضب تماماً عن حالته الطبيعية.

وقد قررت الآية أن الإنسان لا يتحمل مسؤولية مثل هذا القسم، والله لا يؤاخذه عليه، فلا يترتب عليه أيُ أثر لا من حيث الكفارة ولا من حيث الإثم والعقاب في الآخرة، وذلك لأن الله لا يؤاخذ الناس على أعمالهم إلا من خلال الالتزامات والدوافع الداخلية، التي تدل عليها الكلمات، ولا بد في الالتزام من نية وقصد أو كلمة تظهر منها النية ويظهر منها القصد والعزم, فما دام أن الإنسان غير قاصد من قوله لا والله أو بلى والله أو والله كذا، غير قاصد الاستعمال الجدي للكلمة، فلا أثر لكلماته ولا يعبأ بكلامه، فلا يؤاخذه الله عليه.

ولكن يجب الالتفات إلى أن على الإنسان أن يتربى على ترك مثل هذا القَسم وأن يحاول مهما أمكن أن لا يردده في محاوراته وكلماته، لأنه إذا كان الله لا يؤاخذ الإنسان عليه فليس معنى ذلك أنه عادة حسنة، بل أن الإكثار من هذه اليمين يعتبر من العادات السيئة المكروهة في الإسلام والتشريع كما ذكرنا, لأن هذا اللون من الحلف بالله يؤدي إلى الاستخفاف بالله والاستهانة باسمه، وقد ذمَّ من أكثر الحلف في سورة القلم بقوله تعالى: (ولا تطع كل حلاف مهين) 10.

وقد ورد في بعض الروايات: أن من أكثر الحلف واليمين قلّت مهابته, وكثر حنثه أي مخالفته لليمين ، واتهم بالكذب.

وقد أدرج بعض المفسرين تحت اليمين اللغو, القسم على ارتكاب فعل محرم أو مكروه، كأن يقسم شخص على أداء دين، أو يحلف على قطع أرحامه، أو يحلف على الفرار من الجهاد، أو يقسم على الاعتداء على فلان من الناس وما أشبه ذلك, فإن أقسم على شيء من ذلك فإن عليه أن لا يعتني بقسمه, ولا كفارة عليه، وقيل إن هذا هو معنى قوله تعالى: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم). هذا كله في النوع الأول من القسم وهو اليمين اللغو.

وأما النوع الثاني من القسم: فهو القسم الصادر عن إرادة وقصد وقرار، أو بحسب تعبير الآية القسم الداخل في إطار كسب القلب، فإذا حلفت بالله وكنت ناوياً اليمين بحيث إن القسم صدر عن قصد منك وعن نية قلبية وعزم وقرار, فإن هذا النوع من القسم معتبر ويجب الالتزام بمضمونه، فلو أقسمت بالله على ترك التدخين وكنت قاصداً ذلك بشكل جدي بحيث صدر اليمين عن قصد ونية وعزم وجب عليك أن تلتزم بذلك.

وقد قررت الآية أن الله يؤاخذ الإنسان على مخالفة هذا النوع من القسم ويحمله المسؤولية، فمن خالف يمينه الذي صدر عن نية قلبية وعن قصد جدي عامداً متعمداً فقد ارتكب ذنباً وإثماً يستحق عليه العقاب، وعليه أن يدفع الكفارة.

وكفارة مخالفة اليمين: إطعام عشرة مساكين أو تحرير رقبة أو صيام ثلاثة أيام كما ذكرت الآية 89 من سورة المائدة: (لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخِذكم بما عقدُتم الأيمان فكفارتُه إطعام عشرة مساكين من أوسطِ ما تطعمون أهليكم أو كِسوتُهم أو تحرير رقبة فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيامٍ ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتُم واحفظوا أيمانكم كذلك يُبين الله لكم آياته لعلكم تشكرُون).

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين