اليهود وسياسة الخداع وكتمان الحق (30)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(ولا تلبِسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون).

تستعرض هذه الآية الواردة في إطار الحديث عن اليهود قسماً آخر من الوصايا والأوامر الإلهية التي وجهها الله لليهود من أجل أن يلتزموا بها في حياتهم.

والآية تشير إلى أن اليهود كانوا يتبعون في مواجهة الحق وفي مواجهة الإسلام أسلوبين:

الأول: أسلوبُ الخِداع والتمويه على الناس.

والثاني: أسلوبُ كِتمان الحق وإخفائه عن الناس.

في الأسلوب الاول: كان اليهود يخدعون الناس البسطاء ويشوشون أفكارهم ويزلزلون إيمانهم وقناعاتهم بالإسلام وذلك من خلال خلط الحق بالباطل، ومن خلال إثارة الشبهات حول قضايا الإيمان وحول مفاهيم الإسلام حتى يشككوا الناس في هذا الدين، وحتى يجعلوا الحق شيئاً خفياً وغامضاً ومعقداً, بحيث يقفُ الإنسان حائراً بين الحق الذي أنزله الله والباطل الذي يقولونه ويفعلونه فلا يقدر على التمييز بينهما.

وهذا ما وجدناهم يفعلونه ويمارسونه بالنسبة إلى النصوص الواردة في التوراة التي ذكرت فيها صفة محمد(ص) والتي دلت على نبوته وصدقه في دعوته ورسالته.

 فقد كانوا يجادلون في هذه النصوص، ويناقشون فيها، ويأولونها ويفسرونها على أن المقصود بها شخصٌ آخر غيرُ محمد، وأن المقصود بها دين آخر غيرُ الإسلام، وهذه الطريقة هي عين الخلط بين الحق والباطل، فهم يخلطون الحق الذي هو صفة محمد في التوراة, يخلطونه بالباطل الذي يأتون به من عند أنفسهم, وهو تفسيرهم بأن المقصود بهذه الصفة شخصٌ آخر غير محمد, وتأويلهم لتلك الأدلة والقرائن بتطبيقها على شخصٍ آخر غير النبي.

بل إنهم في بعض الحالات كانوا يعترفون ويقولون إن محمدا نبي مرسل، ولكنهم ينكرون أن يكون قد أرسل إليهم، ويقولون إنه مبعوث إلى غيرهم من سائر الناس، وهذا نحو آخر من تلبيس وخلط الحق بالباطل، لأن الحق هو قولهم إن محمداً أرسل نبياً إلى الناس، والباطل هو إنكارهم أن يكون قد أرسل إليهم, فكانوا يخلطون بقولهم هذا بذاك.

هذا هو أحد أعمال اليهود فيما يتعلق بتضليل الناس والتمويه عليهم, وهذا الأسلوب هو ما أشارت إليه الفقرة الاولى من الآية: (ولا تَلبِسوا الحق بالباطل). فالله عز وجل يحذرهم من ذلك.

 واللبس معناه الخلط, والمعنى: لا تخلطوا الحق بالباطل، بأن تغطوا الحق الذي أنزله الله بباطلكم الذي تقولونه وتفعلونه، لا تخلطوا الحق بالباطل بأن تغطوا صفة محمد التي بينتها التوراة بتحريفكم لها وتأويلكم وتفسيركم إياها بغير محمد وبغير دينه، ولا تخلطوا الحق بالباطل، بأن تقوموا بتغيير بعض آيات  التوراة التي أنزلها الله على موسى وتضعوا مكانها شيئاً آخر من عند أنفسكم مما ينسجم مع أهوائكم وأطماعكم، وهذا هو العمل الذي مارسه اليهود في الماضي ولا يزالون يمارسونه في الحاضر بأساليب متنوعة.

والأسلوب الثاني: الذي كانوا يتبعونه في مواجهة الحق، هو أسلوب كِتمان الحقائق وإخفائها عن الناس، وهذا هو ما أشار إليه المقطع الثاني من الآية: (وتكتموا الحق وأنتم تعلمون).

فقد كان اليهود يملكون بواسطة أنبيائهم وتوراتهم وكتبهم الدينية، كانوا يملكون الكثير من المعلومات والبينات والأدلة التي تؤكد صدق النبي (ص) في دعوته وفي رسالته، ولكنهم كانوا يُخفون هذه الحقائق عن الناس.

فقد حدثنا التاريخ أن بعض المسلمين سألوا أشخاصاً من علماء اليهود وأحبارهم، عن بعض ما جاء في التوراة بشأن رسول الله، وبشأن الإسلام فتكتموا على ذلك وأخفوه، وأبوا أن يخبروهم بشيء من ذلك.

بل إن الوقائع التاريخية تشهد بأنه حتى أولئك الذين كانوا قبل ظهور الإسلام ينتظرون خروج النبي، ويبشرون بظهوره ويذكرون للناس صفاته وعلاماته والدلائل التي تشير إلى شخصيته ونبوته ورسالته، حتى هؤلاء نجدهم بعد البعثة النبوية المباركة وبعد ظهور الإسلام يخفون تلك الحقائق والدلائل، ويبادرون إلى تحريفها وتأويلها وتطبيقها على شخصية أخرى غير شخصية النبي وعلى رسالة غير رسالة الإسلام.

ولعل من أهم العوامل التي دفعتهم إلى هذه الخيانة الكبرى خيانة إخفاء الحقائق المتعلقة بالإسلام، هو أنهم لا يريدون لهذا الإسلام أن يأخذ مكانه الطبيعي ودوره الطبيعي كقوة رسالية إلهية في الحياة، لا يريدون للإسلام أن يكون قوةً لها سلطتها ونفوذها وتأثيرها في حياة الناس، خوفاً على مصالحهم وأطماعهم ونفوذهم ومكانتهم الاجتماعية والدينية والاقتصادية بين الناس.

واليهود لم يُخفوا الحقائق المتعلقة بالإسلام وبنبي الإسلام فقط، بل تستروا على بعض الأحكام الواردة في التوراة مما لا ينسجم مع أهوائهم وشهواتهم وانحرافتهم، فقد أخفوا حكم رجم الزاني الذي كان قد ورد في التوراة، وكتموا ما في الكتب المنزلة من الهدى والحق وعبادة الله وحده فلم ينشروها بين الناس، بل إنهم نبذوا تلك الكتب وراء ظهورهم ولم يعملوا بها على حد تعبير القرآن من أجل الحصول على متاع قليل من متاع الدنيا وشهواتها.

إن اليهود بإخفائهم للحقائق الإلهية وتحريفهم لها, يصادرون في الواقع جهود كل الأنبياء وتضحيات كل الصالحين والشهداء، وهذه اكبر خيانة للدين وللامة.

إن هؤلاء بأسلوبهم هذا.. يحجبون النور والهداية والعلم والمعرفة عن الناس، ويمنعون الناس من الاستفادة من هذه النعم الإلهية، ويصدُونهم عن الانخراط في المسيرة الإلهية باتجاه التكامل، وهذه أكبر جريمة يرتكبها اليهود بحق الإنسانية.

إن الله تعالى في هذه الآية: (ولا تَلبِسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون).

وإن كان يخاطب اليهود ويحذرهم من اتباع هذه الاساليب، إلا أنه في الحقيقة هو تحذيرٌ وإنذارٌ لكل من يحاول خداع الناس وتضليلهم من خلال إثارة الشبهات، وتحذير وإنذار لكل من يكتم الحقائق وهو عالم بها ومطلع عليها, إنه إنذار لكل علماء الدين بأن عليهم أن يجتهدوا في تبليغ الحقائق الإلهية للناس وفي بيان الأحكام وتوضيحها لهم، والذين يتقاعسون أو يقصرون في عرض الحقائق والأحكام الإلهية وفي تبيين وتوضيح خط الله وطريق طاعته، سينالهم نفس المصير الذي أعده الله لعلماء اليهود وأحبارهم.

فقد روي عن النبي (ص) أنه قال: "من كتم علماً عن أهله ألجم يوم القيامة بلجام من نار".

وعن الحسن بن عمار قال أتيت الزُهري وهو أحد المحدثين الكبار بعد أن ترك الحديث، فوجدته على بابه، فقلت له، إن رأيت أن تحدثني.

فقال: أوما علمتَ أني تركت الحديث. فقلت: إما أن تحدثني وإما أن أحدثك؟

فقال: حدثني أنت، فقلت حدثني الحَكم بن عُيينة , عن نجم الجزار قال: سمعتُ علي بن أبي طالب عليه السلام يقول: "ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يُعلموا".

قال: فاطرق الزهري برأسه ملياً بعد أن سمع قولي ثم قال: اسمع لأحدثك، فحدثني أربعين حديثاً.

وإذن: فإن على العلماء والمفكرين والمطلعين وكل من يعرف ولو شيئاً قليلاً عن الحق وأحكام الدين, فإن عليه أن يعلم به غيره, فإن النبي(ص) يقول: إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه, فإن لم يفعل أكبه الله على منخريه في النار. وفي تعبير آخر: فإن عليه لعنة الله.

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين