وصايا القرآن لبني اسرائيل (29)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(وآ منوا بما انزلتُ مصدقاً لما معكم، ولا تكونوا أول كافر به ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً وإياي فاتقون).

هذه الآية تتوجه بالدعوة إلى اليهود من أجل أن يلتزموا بعدة وصايا هي:

أولاً: أن يؤمنوا بنبوة النبي (ص) وبالقرآن الذي أُنزل عليه.

وثانياً: أن لا يكونوا أول فئةٍ وجماعة تكفر به.

وثالثاً: أن لا يبيعوا آيات الله بثمن قليل.

ورابعاً: أن يتقوا الله ويخافوه وحده.

 هذه الوصايا تشكل جزءاً من بنود العهد الذي أخذه الله على بني إسرائيل، وأمرهم في الآية السابقة أن يفوا به (وأوفوا بعهدي).

في الوصية الاولى: يأمرهم الله أن يؤمنوا بما أنزله على رسول الله محمد(ص) في رسالته, وأن يؤمنوا بالقرآن, هذا القرآن الذي يصدق ما معهم من التوراة ويتطابق وينسجم مع كتبهم السماوية، لأن النبي (ص) لم يأتِ ليكذب من كان قبله من الأنبياء، ولم تأت شريعته ورسالته لتكذب الشرائع السابقة والرسالات السابقة, ولم يأتِ هذا القرآن ليكذب ويُبطل التوراة أو الكتب السماوية الاخرى، بل إن الإسلام جاء ليصدق الديانات الإلهية التي كانت قبله, وليكمل ما نقص بفعل تقدم الحياة وتطورها وحاجتها إلى الأشياء الجديدة والطارئة في هذه المرحلة الجديدة.

والقرآن جاء ليصدق التوراة التي أنزلت على موسى (ع) والكتب السماوية الاخرى, فما أنزله الله على محمد (ص) في رسالته وفي القرآن مطابقاً ومصدقاً لما معكم أيها اليهود من التوراة ومن شريعة موسى ورسالته التي بعثه الله بها.

فما معكم مما أوحى الله به القرآن لا يكذبه ولا يُبطله ولا يلغيه، لان الشرائع الإلهية وإن تعددت في الظاهر إلا أنها في المضمون لا اختلاف فيها, هي متحدة في أصول العقائد وفي المفاهيم وفي الأحكام التي ترجع إلى تربية الإنسان وسعادته في الدنيا والآخرة، فكل الاديان دعت إلى توحيد الله, وكل الأديان دعت إلى عبادة الله, وكل الشرائع دعت إلى رفض الشرك والظلم والعدوان والاستكبار، والتوجه نحو طاعة الله وحده، والاختلاف إنما هو في بعض الامور التي كانت تفرضها طبيعة الظروف في كل مرحلة رسالية، فإن مرحلة كل نبي كانت تفرض بعض الأشياء الخاصة، تبعاً لظروف تلك المرحلة وتطور الحياة فيها.

والقرآن الكريم يصرح بتصديقه لما جاء في الكتب الإلهية السابقة ليس في هذه الآية فقط بل يصرح بذلك في مواقع عديدة. فقد جاء في الآية 89 في سورة البقرة: (ولما جاءهم كتابٌ من عند الله مصدقٌ لما معهم). وجاء في الآية 101 من نفس السورة: (ولما جاءهم رسولٌ من عند الله مصدقٌ لما معهم). وجاء في الآية 48 من سورة المائدة: (وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مُصدقاً لما بين يديه من الكتاب).

وأما الوصية الثانية: (ولا تكونوا أول كافر به): فالله يحذر فيها اليهود أن يكفروا برسالة النبي (ص) وبما أنزل عليهم، لان اليهود كانوا أعرف الناس بحقيقة هذا الدين وبحقيقة الإسلام والقرآن، لأنهم كانوا أصحاب كتاب هو التوراة, وهذه التوراة بشرت بنبوة النبي محمد (ص) وذكرت أوصاف هذا النبي وعهدت إلى بني إسرائيل أن يؤمنوا به وبرسالته.

 ولهذا فقد كان اليهود قبل ظهور الإسلام ينتظرون هذا الرسول الذي بشرت به كتبهم الدينية، وكانوا يتوقعون ظهوره بين الحين والآخر، وكانوا يبشرون الناس به, ويذكرون لهم سماتِه وأوصافه لأنهم كانوا يعرفونه بصفاته وعلاماته كما يعرفون أبناءهم على حد تعبير القرآن.

يقول تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم وإن فريقاً منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون). فإذا كانوا على هذا المستوى من المعرفة بالنبي ورسالته، فإن الكفر به لا ينسجم مع معرفتكم بصحة دعوة النبي ورسالته، فمن بادر منكم إلى الكفر سيكون أشد خزياً ومعاندة للحق، لأنه يدرك الحق ويعرفه جيداً ثم يحيد عنه ويكذب به.

والوصية الثالثة: (ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً). وهذا نهي صريح لليهود عن أن يعارضوا آيات الله بأي ثمن، فآيات الله لا يمكن معارضتها بأي ثمن, قليلاً كان أم كثيراً، والمقصود بآيات الله هي الدلائل والبراهين والبشارات الموجودة في التوراة التي دلت على نبوة محمد والإسلام.

والمقصود بالثمن هو المصالح الرخيصة والتافهة، فالله يريد أن يقول لليهود أن لا ينكروا هذه الحقائق التي بين ايديهم والتي تدل على صحة الإسلام, أن لا ينكروا ذلك أو يحرفوه أو يكتموه مقابل أن يحصلوا على امتيازات مالية أو معنوية, أو من أجل مصالحهم التافهة ومواقعهم الرخيصة, ففي الحقيقة لو قدمت الدنيا بأجمعها لشخص ثمناً لإنكار آية واحدة من آيات الله أو ثمناً لتحريف وتزوير آية واحدة من آيات الله، لكانت الدنيا بما فيها ثمناً قليلاً، لأن هذه الحياة فانية وزائلة, والحياة الأخرى هي دار البقاء والخلود, ولا يمكن لعاقل أن يستبدل حياة فانية بحياة باقية وخالدة.

والوصية الرابعة: (وإياي فاتقون): والخطاب هنا موجه لعامة اليهود بصورة شاملة، ولزعماء اليهود بصورة خاصة، هؤلاء الذين يخشون أن ينقطع رزقهم وأن تذهب مصالحهم، وأن يواجهوا معارضة المتطرفين اليهود ضدهم، هؤلاء عليهم أن يخشوا الله وحده وأن يخافوا عصيان أوامره سبحانه والتمرد عليها، لا أن يخافوا امتيازاتهم ومصالحهم الدنيئة.

هذه هي بعض الوصايا والعهود التي توجه الله بها إلى اليهود, ولكن اليهود الذين اعتادوا أن ينقضوا العهود والمواثيق، وأن يقدموا مصالحهم وأطماعهم ومواقعهم على كل شيء لم يلتزموا بهذه الوصايا ولم يفوا بهذه العهود الإلهية.

فالقرآن والوقائع التاريخية تحدثنا بأن اليهود بالرغم من كل الدلائل والبراهين التي كانوا يملكونها من خلال كتبهم الدينية التي دلت على نبوة محمد وصحة الإسلام والقرآن، كفروا بالإسلام ووقفوا بوجهه وحركوا المؤامرات ضده، وحرضوا الناس على محاربة النبي(ص) والوقوف بوجه دعوته ودولته، وحرفوا كل الحقائق وآيات الله الموجودة في التوراة.. وجدوا أن مصالحهم معرضة للخطر, وان مكانتهم الاجتماعية معرضة للإنهيار, وأن نفوذهم معرض للزوال إن فهم الناس الحقيقة.

ولذلك فقد ورد عن الإمام الباقر(ع) في سبب نزول هذه الآية: (ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً) انه قال: كان حي بن أخطب وكعب بن أشرف وآخرون من اليهود لهم مأكلةٌ على اليهود في كل سنة، فكرهوا بطلانها بأمر النبي(ص) فحرفوا لذلك آياتٍ من التوراة فيها صفتُهُ وذكرُهُ, فذلك الذي اريد في الآية.

ويقول القرآن عنهم: (ولما جاءهم رسولٌ من عند الله مصدقٌ لما معهم نبذ فريق من الذين أُوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون).

وسيأتي مزيد من الحديث عن ذلك في مكانه المناسب إن شاء الله.

                                                وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين