القرآن يُذّكّر بني اسرائيل بنعمه عليهم ويطالبهم بالوفاء بالعهد (28)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمتُ عليكم وأوفوا بعهدي أوفِ بعهدكم وإيايَ فارهبون).

يحتل الحديث عن اليهود قِسماً هاماً من سورة البقرة التي هي أول سورة نزلت في المدينة المنورة, وقد بلغت آيات هذا القسم الذي تحدث فيه القرآن عن اليهود وحياتهم وتاريخهم أكثر من مئة آية.

أما لماذا هذا التركيز في الحديث عن خصوص اليهود في هذه السورة المدنية، فلأن اليهود كانوا أشهر مجموعةٍ من أهل الكتاب في المدينة، وكانوا يمثلون القوة الدينية الكبيرة التي وقفت ضد الإسلام وحاولت بكل ما استطاعت من قوة ونفوذ أن تعطل مسيرة الرسول(ص) وأن تشوه صورة الإسلام أمام الرأي العام، وأن تخلُق البلبلة والإرتباك في أذهان المسلمين من أجل أن تزلزل عقيدتهم وتهز قناعاتهم بالإسلام.

وقد استهدف القرآن من خلال الاهتمام بالحديث عن اليهود تحقيق أمرين أساسيين:

الامر الأول: بيان الأسس والقواعد المشتركة التي تجمع بين الإسلام وبين غيره من الديانات من أجل إقامة الحجة على اليهود من خلال هذه القواعد المشتركة المسلمة لديهم.

والثالث: كشفُ حقيقة اليهود ودوافعهم وذلك بالحديث عن طباعهم وأساليبهم وخُدعِهم وانحرافاتهم وجرائمهم بحق الأنبياء وغيرهم.

ويوجه القرآن في هذه الآية خطابه إلى بني إسرائيل، وقد تكرر في القرآن الحديث عن اليهود بصيغة (بني إسرائيل) اكثر من أربعين مرة.

وكلمة إسرائيل هي الاسم الثاني للنبي يعقوب والد النبي يوسف، والنبي يعقوب هو ابن إسحاق, وإسحاق هو الابن الثاني للنبي إبراهيم (ع) بعد إسماعيل, فعندما يقال: (بنو إسرائيل) يعني أبناء يعقوب وذريته ونسله.

ومعنى كلمة إسرائيل في اللغة العبرية هو عبد الله, لأن (اسرا) معناه العبد و(ايل) بمعنى الله، فإسرائيل يعني عبد الله.

وعلى كل حال فإن الآية الكريمة التي قرأناها في بداية الحديث توجّه ثلاثة أوامر لبني إسرائيل وهي: أن يذكروا النعم التي أنعم الله بها عليهم. وان يلتزموا بعهد الله، وأن يخافوا الله وحده.

 وابتدأ الله خطابه معهم بتزكيرهم بنعمه عليهم, والآية وإن لم تعين هذه النعم التي اختصهم الله بها إلا أنه يتضح من خلال الآيات الأخرى أن الله عز وجل كرم بني إسرائيل بأعظم النعم, يقول تعالى: (سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آيةٍ بينةٍ ومن يُبدل نعمة الله من بعد ما جاءته فإن الله شديد العقاب) البقرة/ 211.

ولعل من أبرز هذه النعم التي أنعمها الله على بني إسرائيل: هي أنهم جعلهم من أولاد الأنبياء ومن ذرية إبراهيم (ع)، وجعل فيهم الكثير من الأنبياء, وفيهم من أنبياء أولي العزم, كموسى وعيسى عليهما السلام، وأنزل فيهم التوراة التي هي أقدمُ الكتب السماوية وأعظمها وأفضلها بعد القرآن الكريم، وأعطاهم المُلك والحكم والسلطان في عهد النبي سليمان (ع)، يقول تعالى: (ولقد آتينا بني إسرائيل الكتاب والحكم والنبوة ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على العالمين)  الجاثية/ 16.

والخلاصة: أن الله أعطاهم من كل ما سألوه، فلا بد أن يذكروا هذه النعم التي أنعم الله بها عليهم فتوجهوا بالشكر إلى الله وبالطاعة له، وبقبول دعوة الأنبياء ورسالات الله ودعمها والانقياد في خطها, فإن هذه النعم تستوجب منهم الإيمان برسالة النبي والتسليم له والإيمان بالإسلام, ولكنهم بدل أن يقابلوا هذه النعم بموقف الشاكرين المطيعين لله، فإنهم قابلوا ذلك بالكفران والإساءة والجحود فأعرضوا عما أمر الله به, وكفروا بالنبي (ص) ووقفوا بوجه الإسلام وتآمروا عليه, وحاولوا أن يشوهوا صورته في أذهان الناس، بالرغم من أنهم كانوا يعرفون جيداً بأن محمد بن عبد الله(ص) هو النبي الأمي الذي بشرت به التوراة، وأنه رسول الله حقاً وخاتم الأنبياء.

(يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم، وأوفوا بعهدي أُوفِ بعهدكم).

الأمر الثاني: الذي توجه الله به في هذه الآية إلى بني إسرائيل هو أن يلتزموا بعهد الله، فلا ينقضوه ولا يتخلوا عنه. وجملة (وأوفوا بعهدي) توحي بأن هناك عهداً بين الله وبينهم هذا العهد هو أن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئاً, وأن يسيروا في الخط الذي يريده الله, وأن يعملوا بما دلت عليه فطرتهم التي تدعوهم إلى عبادة الله وطاعته، وأن يلتزموا بما أنزل الله على الأنبياء والرسل من مفاهيم وأحكام, وذلك هو عهد الله الذي أبلغهم الله إياه بواسطة الأنبياء والرسل والكتب التي آمنوا بها. ومن جملة ما عهد إليهم في التوراة أنه باعث نبياً يقال له محمد، فعهد الله إليهم أن يؤمنوا بنبوة هذا النبي وأن يصدقوا بما انزل عليه، وأن ينصروه ويدعموه، ويقفوا إلى جانبه.

وقد بين الله تعالى في آيات أخرى بالتفصيل ما عهِدَ به إليهم وما أخذه الله عليهم من عهود ومواثيق ليعملوا بها, يقول تعالى في سورة البقرة: (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً وذي القُربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسناً واقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلاً منكم وأنتم معرضون) البقرة/ 83.

(وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفِكون دمائكم ولا تُخرجون أنفسكم من دياركم ثم اقررتم وأنتم تشهدون) البقرة/84.

ويقول تعالى في سورة المائدة: (ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم) المائدة/ 12.

فالذي يتضح من هذه الآيات أن ميثاق بني إسرائيل والعهد الذي بينهم وبين الله يتكّون من اثنى عشر بنداً، وهي أن يعبدوا الله وحده ولا يشركوا به شيئاً، وأن يحسنوا للوالدين، ولذي القربى، ولليتامى، وللمساكين، وأن يتعاملوا بشكل صحيح مع الآخرين، وأن يقيموا الصلاة، وأن يأتوا الزكاة، وأن لا يسفكوا الدماء، وأن لا يطرد بعضهم بعضاً من ديارهم، وأن يؤمنوا بالأنبياء والرسل، وأن ينصروا الأنبياء ويؤازروهم في جميع مواقفهم، وسيأتي الحديث عن ذلك بالتفصيل في مكانه المناسب إن شاء الله.

وقد كان بنو إسرائيل قد وُعِدوا من قبل الله بالنعيم وبالثواب وبدخول الجنة إن هم وفوا بعهدهم, يقول تعالى: (ولأُدخلنكم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار) وهذا هو عهد الله لهم الذي أشار إليه تعالى بجملة: (أُوفِ بعهدكم) فعهد الله لهم أن يدخلهم الجنة ويرفع من شأنهم في الحياة إن هم وفوا بعهد الله وميثاقه، ولكنهم نقضوا الميثاق ونقضوا العهود التي بينهم وبين الله, فكذبوا الأنبياء ولم يؤمنوا برسالة محمد ووقفوا في وجه دعوته، ولا يزالون حتى اليوم ينقضون عهد الله، وكانت نتيجة ذلك أنهم شتتوا وشردوا، وسيبقون مشردين ومشتتين ما داموا ناكثين لعهد الله.

وإذا راينا لهم اليوم قوة بفعل الدعم الاستكباري لهم، فإن هذه المرحلة لن تطول إن شاء الله، وسيتحقق وعدُ الله بزوالهم على أيدي المجاهدين والشرفاء من أبناء الإسلام المحمدي الأصيل.

(وإياي فارهبون) وهذا هو الامر الثالث لهم, وهو أن يخافوا الله وحده وأن لا يخافوا غيره, فإذا كنتم تنحرفون عن الخط الذي يريده الله خوفاً من الناس لان الناس سوف يحاربونكم إن وقفتم في خط الله، أو خوفاً من فقدانكم لامتيازاتكم ومصالحكم فتخافون أن تفقدوا أموالكم ومصالحكم ونفوذكم إن وفيتم بعهد الله والتزمتم الميثاق، فاعلموا أن أحداً لا يستطيع أن يضركم إلا بإذن الله, فليكن الخوف من الله وحد, ولتكن الرهبة لله وحده في قضايا الدنيا وفي قضايا الآخرة, لأنه وحده الذي يجب أن يخافه الإنسان, ووحده الذي يرهب من سطوته وعقابه وعذابه.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين