ما معنى وقوع آدم وحواء في المعصية؟(فأزلهما الشيطان) (27)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الارض مستقر ومتاع إلى حين).

يدور حديثنا في هذه الآية حول قوله تعالى: (فأزلهما الشيطان) الذي يفهم منه أن آدم وحواء وقعا في الزلل والمعصية قبل أن نبين ونوضح بأن مخالفة آدم في الجنة لم تكن معصية وذنباً تنافي عصمته ، ولا بد من تقديم هذه المقدمة حول معنى عصمة النبي ومجالات العصمة وأقسامها:

معنى عصمة النبي أن لدى النبي قوة وطاقة تمنعه بإرادته واختياره عن ارتكاب المعصية والوقوع في الخطأ والسهو, والنبي منزه بحكم العقل عن المعصية والخطأ والسهو في كل ما يتصل بالدين وأحكامه، وفي كل أعماله وتصرفاته وحركته في الحياة, بحيث إن النبي يبلغ من الطهر والقداسة والعلم والمعرفة درجة يستحيل معها أن يرتكب عمدا ًوسهواً ما يخالف أمر الله ونهيه.

والعصمة بهذا المعنى لها مجالات متعددة:

منها: العصمة في مجال العقيدة, أي أن النبي منزه عن الكفر والإلحاد والإنحراف والضلال, ومما لا شك فيه أن هذه العصمة ثابتة لكل نبي بشكل بديهي, إذ لا يعقل أن يكفر النبي بالله الذي اختاره للنبوة.

ومن مجالات العصمة أيضاً: العصمة في التبليغ عن الله سبحانه، أي أنه معصوم عن الخطأ والسهو في كل المفاهيم والأحكام التي يبلغها للناس، فإذا قال للناس: إن الله يأمر بالإحسان إلى الوالدين او بالجهاد في سبيل الله ضد الأعداء أو قال: إن الله ينهى عن الغيبة والنميمة أو عن معاونة الظالمين والأعداء، فإن علينا أن نطيعه في ذلك كله لأن الواقع هو كما قال، ولا يمكن لأحد أن يقول بأن النبي ربما يكون قد أخطأ في تبليغ هذه الاحكام عن الله, أو ربما اشتبه أو سهى في ذلك، فإن العصمة في التبليغ تنفي الخطأ والسهو في ذلك كله، فالنبي (لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى).

(وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) فالنبي لا ينطق عن نفسه وعن أهوائه ومزاجه, وإنما ينطق عن الله وبوحي من الله, وكل ما يقوله فيما يتصل بالدين وأحكامه فهو من الله.

وهذا المعنى من العصمة ثابت أيضاً لكل نبي من أنبياء الله، لأن كل نبي من انبياء الله جاء ليبلغ الحق والعدل للناس, فلو قلنا بأنه يمكن أن يخطىء في ذلك أو يمكن أن يشتبه أو يسهو في تبليغ الأحكام, فكيف يمكن أن نثق بأن ما يأمر به هو الحق وأن ما ينهى عنه هو الباطل، فلا بد من القول بعصمة كل نبي في تبليغ الأحكام لئلا ينتقض الهدف من إرسال الأنبياء.

وهناك مجال آخر للعصمة هو عصمة الأنبياء في أفعالهم وتصرفاتهم العادية, وفي سيرتهم الخاصة, فالأنبياء معصومون في كل ما يقولون ويفعلون ويتصرفون، تماماً كما هم معصومون في العقيدة والتبليغ, ويستحيل عليهم أن يرتكبوا الذنوب الصغيرة فضلاً عن الذنوب الكبيرة, ولن تصدر منهم معصية إطلاقاً لا عمداً ولا سهواً ولا قبل النبوة ولا بعد النبوة.

إذا عرفنا ذلك نقول:

نحن نعلم بأن آدم نبياً من أنبياء الله، وقد أشار القرآن إلى نبوته في قوله تعالى: (إن الله اصطفى آدم ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين) آل عمران/ 33.

وقد علمنا من خلال المقدمة التي تحدثنا عنها أن الأنبياء معصومون قبل النبوة وبعدها، أي أنهم منزهون عن الزلل والمعصية وارتكاب الفعل الذي نهى الله عنه.

كما اننا علمنا من خلال الآية التي قرأناها في بداية الحديث وغيرها من الآيات الواردة بشأن آدم، أن آدم وحواء أكلا من الشجرة التي كان قد نهاهما الله عن الأكل منها بعد أن وسوس لهما الشيطان بذلك, فخالفا بذلك نهي الله.. وعلى حد تعبير الآية: (فأزلهما الشيطان) أي أوقعهما في الزلل والمعصية والمخالفة لأوامر الله.

وإذن فكيف يمكن أن نقول بأن آدم نبي معصوم وهو قد خالف نهي الله؟! وكيف يمكن أن نوفق ونجمع بين هذا القول وهو أن آدم نبي معصوم وبين هذه الآية: (فأزلهما الشيطان) وغيرها من الآيات التي تدل على أن هناك عصياناً صدر من آدم وزوجته لنهي الله في الجنة؟!.

وقد أجاب المفسرون عن ذلك بأمرين:

الأول: إن نهي الله لآدم عن الأكل من الشجرة الممنوعة، لم يكن نهي تحريم وتعبد، بحيث يستحق من يخالفه العقاب والعذاب، بل كان نهي إرشاد ونصيحة وتوجيه، بحيث إن من يخالفه لا يضر إلا نفسه ولا يخسر إلا مصلحته.

وتوضيح ذلك أنه قد ينهى الله عن الشيء من منطلق كونه مشرعاً ومولى بحيث يطلب من المكلف أن لا يفعل ذلك العمل تحت طائلة العقاب والعذاب، مثل أن يقول: لا تسرق, لا تلعب القمار, لا تعتدي, لا تغتب الناس, فإن طاعة هذا النوع من النهي واجب على كل إنسان مكلف, والذي يرتكب هذا النوع من الافعال المنهي عنها يعتبر عاصياً ومذنباً يستحق العقاب والعذاب في الدنيا والآخرة، وهذا النوع من النهي يسمى نهياً مولوياً أو نهياً تحريمياً.

وقد ينهى الله عن شيء بصفته ناصحاً ومرشداً يوجه الإنسان  نحو مصلحته ومنفعته من دون أن يلزمه ويوجب عليه أن يسير على أساس النصحية, ولكن ينبهُه على أن مخالفة النهي وأن ارتكاب الفعل الذي نهيتك عنه ونصحتك بالابتعاد عنه يترتب عليه نتيجةٌ سلبية ليست في مصلحتك، وهذا تماماً مثل النصائح التي يوجهها الطبيب للمريض، فالطبيبُ يقول للمريض مثلاً: لا تأكل اللحم لأنه مضر لك، لا تشرب المرطبات مثلجة، أو ما شاكل ذلك، فلو أن المريض خالف الطبيب فيما نهاه عنه وأكل من اللحم شيئاً أو شرب المرطبات مثلجة، فإنه لا يكون قد أهان الطبيب بحيث يستحق العقاب على ذلك، بل يكون قد خالف إرشاده وتوجيهه ونصيحته وتسبب لنفسه بالضرر وبالمزيد من المرض، وهذا النوع من النهي يسمى نهياً إرشادياً ونهياً تنزيهياً.

والله سبحانه هنا عندما قال لآدم وحواء (لا تقربا هذه الشجرة) لأنكما إن أكلتما سوف تخرجان من الجنة، فإن هذا النبي هو نهي إرشادي باعتبار أن نتيجته هو الخروج من الجنة وفقدان نعيم الجنة, لا التعرض للعقاب والعذاب, فآدم في أكله من الشجرة لم يخالف نهياً تحريمياً حتى تكون مخالفته معصيةً وذنباً يتنافى مع العصمة، وإنما بذلك خالف نهياً إرشادياً كانت نتيجته أنه فوت على نفسه مصلحته في البقاء في نعيم الجنة، فخرج منها وحرم من نعيمها.

فالمخالفة التي تتنافى مع العصمة هي مخالفة النهي التحريمي والتمرد على الله فيما نهى عنه نهياً تحريمياً, كارتكاب السرقة مثلاً، أما مخالفة النهي الإرشادي والنصيحة, كمخالفة آدم للنهي عن الأكل من الشجرة، فإنه لا يتنافى مع العصمة, لأنه لم يتمرد على الله في فعل ما هو مبغوض عند الله بل كل ما هنالك أنه ألحق بنفسه ضرراً أو فوت على نفسه مصلحة لأنه خالف النصيحة والإرشاد والتوجه.

وأجاب بعض المفسرين بجواب آخر: وهو أن ما ارتكبه آدم كان تركاً للاولى, وبعبارة أخرى: كان ذنباً نسبياً ولم يكن ذنباً مطلقاً.

وتوضيح ذلك: ان الذنب تارة يكون مطلقاً وهو العمل الحرام الذي يستحق مرتكبه العقاب والعذاب, مثل الشرك والكفر والظلم والعدوان، وتارة يكون نسبياً, والذنب النسبي هو العمل غير الحرام الذي يصدر من شخصية كبيرة لا يناسبها ولا يليق بها أن تقوم بذلك العمل حتى ولو لم يكن ذلك العمل حراماً بالنسبة إلى الأفراد العاديين.

مثلاً: لو ان إنساناً غنياً ثرياً يملك الملايين ساعد فقيراً معدوماً بمبلغ صغير جداً بأن أعطاه  ألف ليرة فقط مثلاً، فإن هذا العمل بحد ذاته يعتبر صدقة مستحبة مهما كان المبلغ صغيراً وقليلاً, ولكن كل من يسمع بأن هذا الثري الكبير تصدق بذلك المبلغ الصغير، سوف يذم ويلوم ذلك الغني حتى كأنه ارتكب ذنباً ومعصيةً, وذلك لأنه يُتوقع من هذا الغني المؤمن أن يقوم بمساعدة أكبر وأن يعطي الفقير أكثر, فهذا العمل منه وإن كان صدقة إلا أنه يعتبر ذنباً, لأنه لا يليق بمكانته ولا بمقامه وشأنه، فإن الأولى به أن يعطي الفقير من الصدقة ما يليق بشأنه.

وآدم (ع) كان يليق به أن لا يأكل من تلك الشجرة وإن كان الأكل منها غير محرم بل مكروهاً, لكن باعتبار أنه نبي من أنبياء الله, وشخصية لها قيمتها ومنزلتها فهو عندما أكل منها يكون بذلك قد ارتكب خلاف الأولى, ويكون قد ارتكب ذنباً نسبياً, لأنه بالنسبة له ولمقامه وشأنه يكون قد ارتكب ذنباً, وإن كان نفس العمل مباحاً، إلا ان هذا النوع من العمل ومن المخالفة لا تتنافى مع العصمة, لان الذنب الذي يتنافى مع العصمة هو الذنب المطلق الذي يستحق الإنسان عليه العقاب والعذاب.

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين