سجود الملائكة واستكبار إبليس (24)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين).

هذا هو الموقف الثاني الذي أراد الله فيه أن يكرم آدم وأن يكرم الإنسان, باعتبار أن آدم هو ابن الإنسان فتكريمه هو تكريم للإنسانية كلها.

والله سبحانه كما هو واضح من الآية, أمر ملائكته بالسجود لآدم تعظيماً وتكريماً لهذا الإنسان، من أجل أن يُظهر قيمة هذا الإنسان ومكانته وفضله على الملائكة وعلى جميع المخلوقات.

والذي يظهر من الآيات السابقة بمقارنتها مع هذه الآية أن الطلب من الملائكة بأن يعظموا ويكرموا الإنسان بالسجود له، إنما هو لأجل أن الانسان امتاز عنهم بفضيلة العقل والمعرفة والعلم، لأن العلم هو المقياس لكل خطوة تخطوها البشرية نحو الرقي والرخاء والكمال، كما أن  الجهل هو أساس التخلف والرجعية.

ولم يتفوق أحد على غيره إلا بالعلم والمعرفة، فالعالم دائماً متبوع بينما الجاهل دائماً تابع، ومن أجل هذا فرض الاسلام طلب العلم على كل مسلم ومسلمة.

وقد كان الأمر بالسجود موجهاً لجميع الملائكة دون استثناء، حتى لجبرائيل وميكائيل واستجاب جميع الملائكة لهذا الأمر الإلهي لأنهم عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون, أما إبليس الذي كان يعيش في صفوف الملائكة فقد رفض السجود لآدم ولم يسجد (فسجد الملائكة كلُهُم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين) الحجر/ 31.

ونحن نريد أن نثير الحديث حول هذه الآية في مسألتين أساسيتين:

المسألة الأولى: إنه من الواضح أن السجود بمعنى العبادة لا يكون إلا لله إذ لا معبود غيرُ الله، وتوحيدُ العبادة يعني أن لا نعبد إلا الله وأن لا نسجد أو نخضع لأحد بالمعنى الذي نسجدُ لله عز وجل.

ومن هنا فكيف يصح أن يأمر الله الملائكة أن يسجدوا لآدم؟ ألا يتنافى ذلك مع توحيد العبادة؟؟

والجواب: ان في سجود الملائكة لآدم احتمالين:

الاحتمال الاول: ان الملائكة لم يسجدوا لآدم, بل كان السجود لله سبحانه من أجل عظمة خلق هذا الموجود الذي خلقه من تراب.

الاحتمال الثاني: ان الملائكة لم يؤدوا لآدم سجدة عبادة، بل كان سجود الملائكة لآدم سجود تحية واحترام وتعظيم وتقدير, تماماً مثل الإنحناء أمام شخص تحترمه وتقدره، أو مثل رفع اليد لشخص تريد أن تحييه، فإن ذلك لا يعتبر عبادة للشخص، وهكذا سجود الملائكة لآدم فإنه كان من أجل إظهار الاحترام والتقدير له، لعظمة خلقه ولمكانته وقيمته ومستواه الرفيع عند الله سبحانه.

وقد أشار إلى هذين الاحتمالين الحديث الوارد عن الإمام علي بن موسى الرضا (ع) حول سجود الملائكة لأدم حيث قال (ع): كان سجُودهم لله تعالى عبودية ـ أي بمعنى العبادة ـ ولآدم إكراماً وطاعة لكوننا في صُلبِه.

ولأن سجود الملائكة لآدم لم يكن سجود عبادة وإنما مجرد احترام وتكريم، لذلك لم يكن رفض إبليس للسجود اعتراضاً على منافاة ذلك للإخلاص لله ولتوحيد العبادة، فلم يقل إبليس لم اسجد لآدم لأنني أرفض السجود لغير الله، بل كان رفضه استكباراً وغروراً لأنه كان يعتقد بأنه أفضل من آدم لأنه خلق من عنصر النار وآدم خلق من عنصر التراب ولأن النار أقوى من التراب, فلذلك كان يعقتد بأنه أفضل من آدم، وأنه كان ينبغي أن يؤمر آدمُ بالسجود له لا أن يؤمر هو بالسجود لآدم، قال تعالى: (قال ما منعك ألاَّ تسجد إذ أمرتك قال أنا خيرٌ منه خلقتني من نار وخلقته من طين) الاعراف/12.

كما اننا لم نجد استغراباً من الملائكة لأمرهم بالسجود, فلو كان السجود لآدم منافياً للإخلاص لله وللتوحيد في العبادة لكنا سمعنا استغراباً من الملائكة على هذا الامر وهو ما لم يحصل, مما يدل على أن السجود لآدم كان واضحاً لديهم بأنه سجود تكريم وتقدير وليس سجود عبادة.

المسألة الثانية: أن كلمة الشيطان هي اسم شامل للشيطان الأول الذي وسوس لآدم ولجميع الشياطين من الجن والإنس, أما كلمة (إبليس) فهي اسم علم لخصوص الشيطان الذي وسوس لآدم إلى أن أخرجه من الجنة.

وإبليس هذا ليس من جنس الملائكة وإنما هو من طائفة الجن, بدليل قوله تعالى في سورة الكهف: (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه) الكهف/ 51.

وتسأل إذا لم يكن من الملائكة معناه أنه لم يكن مأموراً بالسجود لآدم، فلماذا اعتبر عاصياً وطرد من رحمة الله؟

والجواب: ان إبليس وإن لم يكن من جنس وطائفة الملائكة إلا أنه كان يعيش بينهم وفي صفوفهم حتى كان يحسب منهم، فالأمر المتوجه للملائكة بالسجود لآدم يشمله، لأنه يعيش بينهم، وإبليس كان يدرك تماماً ويفهم جيداً بأن الأمر بالسجود لآدم توجه إليه أيضاً، ولذلك عندما رفض السجود لآدم لم يحتج بأن الله لم يأمره بالسجود لآدم وإنما امر الملائكة فقط، وإنما احتج بشيء آخر هو أنه كان يرى نفسه افضل من آدم فلا يناسبه السجود له كما ذكرنا.

وأما السبب الذي دفع بإبليس إلى أن يمتنع عن السجود لآدم فهو التكبر والغرور والاعتداد بالنفس والتعصب للعرف والشعور بالعنصرية, فقد اعتقد كما قلنا بأنه افضل من آدم لأنه خلق من عنصر النار وآدم خلق من عنصر الطين، وعنصر النار أقوى وأشد من عنصر التراب, فلا ينبغي أن يصدر له أمرٌ بالسجود لآدم بل ينبغي أن يؤمر آدمُ بالسجود له كما ذكرنا.

وتسأل إذا كان هذا هو ذنب إبليس وهو مجرد عصيان لأمر إلهي، فلماذا حكم عليه بالكفر، فقال تعالى: (وكان من الكافرين) كما هو صريح الآية؟؟

والجواب: إن في الحكم بكفره احتمالين:

الأول: إن كفر إبليس كان بسبب أنه اعتقد بعدم صحة الأمر الإلهي فهو رأساً اعتبر أن الأمر الإلهي خاطئ وغير صحيح, وبذلك فهو لم يعصِ فحسب بل انحرف عقائدياً بذلك، وبذلك يكون قد حكم عليه بالكفر بالمعنى الحقيقي للكفر.

الثاني: إنه لم يكفر بالله مباشرة ولكنه عاش روحية الكفر من الناحية العملية فهو بعد أن عصى الله وتمرد على الله ولم يستجب لأمره سبحانه، فقد ابتعد عن الخط المستقيم وانحرف عن طاعة الله وإرادته, ولذلك فقد حكم عليه بالكفر العملي وليس العقيدي، وبذلك يكون الكفر في قوله تعالى: (وكان من الكافرين) ليس بمعناه الحقيقي اي الكفر العقائدي، بل بمعناه المجازي أي الكفر العملي الذي ينشئ من خلال التمرد على أوامر الله وممارسة المعصية في نطاق العمل والسلوك.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين