الأرض وما فيها لخدمة الإنسان (22)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم).

بعد أن ذكر الله نعمة الحياة واشار إلى مسألة المبدأ والمعاد في الآية السابقة, اشار في هذه الآية إلى نعمة أخرى من النعم الإلهية التي وهبها للإنسان وهي نعمة خلق جميع ما في هذه الأرض لخدمة الإنسان (هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً).

كلُ ما في هذه الأرض من كائنات وموجودات وخيرات خلقها لكم, من أجل مصلحتكم ومن أجل أن تنتفعوا بها في حياتكم.

الارض خلقها لكم ومن أجل أن تستقروا فيها, وهيئها ومدها وبسطها لكم بطريقة تستطيعون أن تمارسوا حياتكم عليها.

وتتجلى عظمة الأرض عندما نلاحظ قانون الجاذبية فيها، هذا القانون الذي يؤمّن لنا إمكانية الاستقرار وإنشاء الأبنية والمزارع على الأرض وسائر مستلزمات الحياة في هذه الارض, فلو انعدم قانون الجاذبية لحظة واحدة لتناثر في الفضاء كل ما يقوم على هذه الأرض من إنسان وغيره.

الأنهار خلقها لكم ومن أجلكم, من أجل أن تسقي زرعكم وتروي مواشيكم.

الزرع والنبات والثمار خلقها لكم من أجل أن تاكلوا منها.

يقول تعالى وهو يتحدث عن نعم الأرض وخيراتها في سورة الرعد: (وهو الذي مدّ الأرض وجعل فيها رواسي وأنهاراً ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يُغشي الليل النهار إن في ذلك لآياتٍ لقوم يتفكرون وفي الأرض قِطعٌ متجاوراتٌ وجناتٌ من أعنابٍ وزرعٌ ونخيلٌ صنوانٌ وغير صِنوانٍ يُسقى بماءٍ واحد، ونفصّل بعضها على بعضٍ في الأُكُل إن في ذلك لآياتٍ لقوم يعقلون) 1/4.

هذا قسم يسير من نعمه سبحانه علينا, ونحن إذا رجعنا إلى الكتب المختلفة في العلوم الطبيعية والإنسانية والنفسية وغيرها، سوف نجد إلى اي مدى تتسع هذه النعم الموجودة على الارض, وما تم اكتشافه حتى اليوم من قبل علماء الطبيعة وغيرهم ليس إلا جزاءاً من نعم الله في هذه الأرض، وكما قال تعالى: (وإن تعدوا نعمة الله لا تُحصوها).

وفي القرآن الكريم آيات كثيرة توضح أن كل موجودات الكون، الارض والسموات والكواكب, الليل والنهار الأنهار والبحار مسخرة للإنسان، وأن الإنسان هو الهدف النهائي من خلق كل هذه الكائنات في هذا العالم.

يقول تعالى في سورة الجاثية: (وسخر لكم الشمس والقمر دائبين وسخّر لكم الليل والنهار) ابراهيم/33.

وقوله تعالى: (الله الذي خلق السموات والأرض وانزل من السماء ماءً فأخرج به من الثمرات رزقاً لكم وسخر لكمُ الفُلك لتجريَ في البحر بأمره وسخر لكم الأنهار) ابراهيم/32. وقوله تعالى: (وهو الذي سخر لكم البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً) النحل/ 14.

وقوله تعالى: (الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بأمره) الجاثية/12.

إن ما نستفيده من كل هذا الجو القرآني الذي يؤكد أن كل الموجودات في هذا العالم مسخرة من اجل خدمة الإنسان ومصلحته عدة أمور:

أولاً: ان الإنسان أكمل من جميع الموجودات في هذا العالم، فمن وجهة نظر إسلامية نرى أن الآيات تعطي للإنسان القيمة الكبيرة في هذه الارض بحيث يُسخر له كل ما في الكون.

ثانياً: إن التسخير كما يتضح ليس معناه أن جميع الكائنات تحت إمرة الإنسان، بحيث يتصرف فيها كيفما يريد، بل معناه أن الإنسان يستفيد منها بالمقدار الذي ينفعه ويخدمه ويخدم مصلحته وحياته ووجوده على هذه الأرض.

على سبيل المثال: تسخير الشمس للإنسان معناه أن الإنسان يستفيد من نورها ويستفيد من ثمارها وبركاتها, فهي التي تعطي النور والحرارة والدفء وتساعد على نمو النباتات التي نأكل منها، وتطهر بأشعتها محيط الإنسان من الأمراض والأوبئة, ولو لم تكن الشمس لما وجدت أية حركة واي نشاط على الارض, وهكذا بالنسبة إلى الكواكب والأنهار والبحار.

وثالثاً: إن تسخير هذه الموجودات للإنسان، يحمل الإنسان مسؤولية أن يندفع إلى عبادة الله وإلى شكر الله على نعمه الكثيرة هذه، ويدفع الإنسان إلى أن يستخدم نعم الله فيما يرضاه الله وفيما يريده ويحبه, وأن يتطلع دائماً إلى آفاق السماء, لكي لا تصيبه الغفلة, ولا يكون عبداً للشهوات والمال والمقام والموقع وما إلى ذلك.

وأما المقطع الثاني من الآية وهو قوله تعالى: (ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات وهو بكل شيء عليم) فإن هذا المقطع يشير إلى دليل من أدلة توحيد الله.

والفعل (استوى) من (الاستواء) وهو الإحاطة الكاملة والقدرة على الخلق والتدبير.

وكلمة (سماء) تشير إلى جهة عليا ولها مفهوم واسع ومفردات مختلفة ولذلك كان لها استعمالات عديدة في القرآن الكريم.

مثلاً: أطلقت كلمة سماء في بعض الآيات وكان المقصود بها الجهة العليا المقابلة للأرض كقوله تعالى: (ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعُها في السماء) ابراهيم/ 24.

فإن المقصود من السماء هنا الجهة العليا المقابلة والمجاورة للأرض.

وفي موضع آخر: أراد القرآن من السماء المنطقة البعيدة عن الأرض قال تعالى: (ونزلنا من السماء ماءً مباركاً).

وفي موضع ثالث: عبر القرآن بالسماء وأراد الغلاف الجوي المحيط بالأرض (وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً) فالسماء هي السقف الذي يحفظ الارض, لأن الغلاف الجوي يحفظ الكرة الأرضية من الصخور السماوية (النيازك) التي تتجه إلى الأرض بفعل جاذبية الأرض لكن اصطدام هذه الصخور بجو الارض يؤدي إلى اشتعال هذه الصخور بحيث تتحول إلى رماد, وتتناثر دون أن تؤثر سلباً على أحد من أهل الارض.

والمقصود بالسماوات السبع في الآية هو وجود سبع سماوات بهذا العدد، وتكرار عبارة السماوات السبع في الآيات القرآنية يدل على أن هذا العدد المذكور في هذه الآيات لا يعني الكثرة بل يعني العدد الخاص بالذات أي السبعة نفسها.

ويستفاد من آيات أخرى أن الكواكب والنجوم التي نراها في السماء هي جزء من السماء الاولى، وما نراه ونشاهده إنما هو السماء الاولى وما فيها, أما بقية السماوات الست فهي خارجة عن نطاق رؤيتنا ووسائلنا العلمية.

يقول تعالى: (وزيّنا السماء الدنيا بمصابيح) فصلت/12.

ويقول تعالى: (إنا زينا السماء الدنيا بزينةٍ الكواكب)  الصافات/6.

فإن الذي يتضح من هاتين الآيتين أن ما نراه في عالمنا من نجوم وكواكب هو جزء من السماء الأولى, وأن وراء هذه السماء ست سماوات أخرى ليس لدينا معلومات عن تفاصيلها.

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين