خلق الإنسان دليل على وجود الخالق (21)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين. (كيف تكفرون بالله وكنتم امواتاً فأحياكم ثم يميتكم ثم يحييكم ثم إليه ترجعون).

الخطاب في هذه الآية موجه إلى كل من كفر بالله، وأنكر وجود الخالق العظيم، وهذه الآية هي من الآيات التي تدور حول معرفة الله والتي طرح القرآن فيها بعض الأدلة على وجود الخالق سبحانه وتعالى.

وقد أثارت الآية في البداية التساؤل حول ظاهرة الكفر كشيء يدعو إلى التعجب والإستنكار لا إلى التفكير والتأمل، لأن مسألة بطلان الكفر هي من الأمور الواضحة التي لا تحتاج إلى تفكير كثير, هي أوضح من أن تخفى على أحد، ولهذا فإن الله تعالى واجه في هذه الآية موقف الكافرين بأسلوب الاستفهام الإنكاري الذي يوحي للإنسان بأن رفض الكفر لا يحتاج إلى جهد كبير , بل يكفي أن يقف الإنسان ليتأمل في ذاته وفي مبدأ وجوده وفي مراحل حياته، ليرفض الكفر ويتوجه نحو الإيمان بوجود الله سبحانه وتعالى، لأن وجود الإنسان بحد ذاته هو دليل وبرهان ساطع على وجود الله الخالق المبدع.

فالآية تطرح دليلاً واضحاً على وجود الله هو: نفس وجود الإنسان، ونفس حياة الإنسان، فتقول: (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم).

الإنسان نفسه قبل الحياة كان عدماً (وكنتم أمواتاً) كان ميتاً تماماً مثل الأحجار والأخشاب، ولم يكن فيه أيُ اثر للحياة, لكنه الآن يتمتع بنعمة الوجود والحياة, وبنعمة الشعور والإدراك، وبنعمة العقل والسمع والبصر، وبنعمة سائر الجوارح والأعضاء التي تعمل وفق نظام دقيق.

 (وكنتم أمواتاً فأحياكم) فمن الذي منحنا نعمة الحياة؟ ومن الذي أوجدنا على هذا النظام الدقيق، الذي ننموا من خلاله ونتكامل جسدياً وفكرياً؟ ومن الذي وضع كل شيء فينا في مكانه الخاص، من خلايا المخ والقلب، إلى الأمعاء والكبد, إلى السمع والبصر, إلى الأعصاب والشرايين إلى ما هنالك؟ من الذين جعل كل هذه الاشياء فينا في مكانها المناسب بحيث تؤدي وظيفتها ودورها بشكل دقيق بالغ الدقة والتنسيق من دون أن يشرف عليها أحد من المخلوقين؟.

وأيضاً: من أين جاء هذا الفهم والعقل والإدراك الذي استطاع الإنسان من خلاله أن يفهم الاشياء الدقيقة والمعقدة وأن يصل إلى القمر والمريخ؟.

فهل كل هذا جاء صدفةً وبطريقة اتفاقية وعفوية؟ وهل أن الإنسان هو الذي منح نفسه الوجود والحياة؟.

 إن كل إنسان منصف يتأمل في أسرار وجوده وحياته لا يشك في أن هذه الحياة موهوبة له من خالق عالم وقادر, من عالم برموز الحياة وقوانينها المعقدة، وقادر على تنظيمها، وهو الله سبحانه وتعالى.

كما أن كل إنسان عاقل لا يشك ولا يتردد في أن الإنسان العاجز عن فهم أسرار الحياة وأصلها، لا يمكن أن يكون هو الذي منح نفسه الحياة والوجود، الإنسان على الرغم من التقدم الهائل الذي حققه في مجالات العلم والمعرفة لا يزال أضعف وأعجز من أن يمنح الحياة والوجود لأحد, والاستنساخ الذي يتحدثون عنه في هذه الأيام ليس خلقاً, وإنما هو في بعض حالاته عملية تلاعب بالخلايا لتشويه الخلق والحياة.

كل عاقل أيضاً لا يشك في أن الصدفة التي تعني الفوضى والتشويش، لا يمكن أن تنتج حياةً للإنسان بهذا النظام الدقيق وبهذا المستوى من التناسق.

إن الصدفة إذا أردنا أن نُخضعها لمنطق الاحتمالات لوجدنا أنه من المستحيل أن تكون هي التي أوجدت هذا الإنسان وهذه الحياة بكل ما فيها من تعقيد وتنظيم دقيق.

وحتى نوضح ذلك يكفي أن نأخذ عين الإنسان كمثال على ذلك، إن كل عين في الإنسان يوجد فيها تسعُ طبقات شبكية، نأخذ طبقة واحدة من هذه الطبقات التسع وهي الطبقة الأخيرة، فإن الطبقة الأخيرة هذه تتكون من ثلاثين مليوناً من الاعداد، وثلاثة ملايين من الأجسام الدقيقة مخروطة الشكل، وهذا العدد من الأجسام، وتلك الأعداد مرتبة ومنظمة بشكل وبدقة متناهية من أجل أن تعكس المرئيات بشكل صحيح على صفحة العين.

ونحن لو رقمنا هذه الاعداد من واحد إلى ثلاثين مليوناً، ثم شوشناها، وأردنا أن نعيد ترتيبها كما كانت بنفس الترتيب والتنظيم ولكن عن طريق الصدفة, بأن نحملها ونرميها مثلاً بطريقة عفوية، فهل يمكن أن تعود بهذا العمل كما كانت وبالشكل الدقيق المنظم؟ بالتأكيد إن ذلك مستحيل.

ويكفي لكي نجزم باستحالة أن تعود كما كانت عن طريق الصدفة, أننا لو رميناها بطريقة عشوائية فأن نسبة احتمال أن يقع العدد رقم واحد في مكانه المخصص له، هي نسبة واحد من بين ثلاثين مليون احتمال.

هذا هو نصيب العدد رقم واحد من احتمالات الوقوع في مكانه المناسب بطريق الصدفة والعفوية، فكيف بالعدد رقم اثنين أو خمسة أو عشرة، أو العدد رقم مائة أو ألف، فإنه بالتأكيد سوف يبلغ عددُ الاحتمالات عشرات الأمتار من أرقام وأصفار.

هذا في طبقة واحدة من طبقات شبكية عين الإنسان، فكيف إذا أردنا أن نخضع هذا الإنسان كله بكل ما فيه من أعضاء وجوارح لمنطق الصدفة؟ إن ذلك لو حاولناه يبدو من السخف والجنون. إذن الصدفة لا يمكن  أن تمنح الحياة والنظام الدقيق في الإنسان.

إن وجود الإنسان يدل بنفسه على وجود الله، وإذا كان وجود الإنسان هو البرهان القاطع على وجود الله سبحانه، فكيف يجوز لمن يدعي أنه عاقل أن يجحد ويكفر بالله؟ (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم)؟ أليست حياتكم هذه دليلاً على وجود خالق عالم قادر هو الله سبحانه؟ إن الكفر بالله يأتي من خلال جهل الإنسان بنفسه وأسرار وجوده وحياته. إن من جهل نفسه ولم يعرفها ولم يتأمل في أسرارها سوف يُنكر ويجهل غيره، أما من عرف نفسه وتفكر في وجودها، فإنه بالتأكيد سيتوصل من خلال ذلك إلى معرفة الله.

ولذلك فقد ورد في الحديث: من عرف نفسه فقد عرف ربه. أو أعرفكم بنفسه أعرفكم بربه.

هذا كله فيما يتعلق بالمقطع الاول للآية (كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم).

واما المقطع الثاني (ثم يميتكم): فهو يشير إلى ظاهرة الموت بعد الحياة، وظاهرة الموت هي دليل واضح آخر على وجود الله سبحانه.

ظاهرة الموت يراها الإنسان في حياته اليومية، من خلال وفاة من يعرفهم ومن لا يعرفهم، وهذه الظاهرة تبعث الإنسان أيضاً على التفكير والتأمل، من الذي قبض أرواحهم؟ من الذي سلب حياتهم؟ إن سلب الحياة من الناس يدل على أن هناك من منحهم هذه الحياة, وان خالق الحياة هو خالق الموت، وإلى هذا تشير الآية في سورة الملك: (الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً)  الملك/2.

وأما المقطع الثالث من الآية وهو قوله تعالى: (ثم يحييكم ثم إليه ترجعون): فهو يشير إلى مسألة البعث والمعاد, أي الحياة بعد الموت، فإن المعاد هو الأصل الثالث من أصول الإسلام والعقيدة بعد التوحيد والنبوة.

ويأتي ذكر المعاد في سياق هذه الآية ليبين أن مسألة الحياة بعد الموت هي مسألة طبيعية لا تختلف عن مسألة خلق الإنسان في هذه الدنيا من العدم، ولا يمكن لعاقل أن ينكر البعث والمعاد وهو يرى نفسه أنه خُلق من عناصر ميتة ومن لا شيء، فإن من خلق الإنسان من لا شيء يهون ويسهل عليه أن يجمع أجزاءه مرة ثانية بعد أن تحولت إلى رميم.

قال تعالى: (وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم) ياسين/ 78.

ويقول في آية أخرى: (يا أيها النانس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة) الحج/ 5.

وتختم الآية بقوله تعالى: (ثم إليه ترجعون). والمقصود بالرجوع هو الرجوع بعد البعث إلى الله للحساب والجزاء على الأعمال. (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تودّ لو ان بينها وبينه أمداً بعيداً ويحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد) آل عمران/30.

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين