الحروف المقطعة وعظمة القرآن (9)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين. قال الله تعالى في أول سورة البقرة: (الم ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين).تبدأ سورة البقرة بهذه الحروف الثلاثة (الف، لام، ميم) التي لا تشكل كلمة مفهومة. وسورة البقرة واحدة من سور كثيرة بدأت بمثل هذه الحروف التي يُعبر عنها (بالحروف المقطعة في القرآن)، حيث بلغت السور التي ابتدأت بمثل هذه الحروف تسعاً وعشرين سورة أولها سورة البقرة.

وابتداءُ بعض السور بمثل هذه الحروف هو من مختصات القرآن الكريم إذ لا توجد في غيره من الكتب السماوية.

وقد اختلف المفسرون في معناها وتفسيرها في عدة آراء وصلت إلى أكثر من عشرين رأياً، ونحن نكتفي هنا بذكر رأيين:

الرأي الأول: هو ما ذكره العلامة الطباطبائي (رضوان الله عليه) في تفسير الميزان وهو: أن هذه الحروف هي رموز بين الله سبحانه وبين رسوله، انها من الأسرار الخفية عنا، وأنه لا مجال أمام أفهامنا العادية لاستيعاب معانيها، إلا بصورة محدودة وبمقدار أن نستشعر أن بينها وبين المضامين والمعاني المودعة في السور ارتباطاً خاصاً.

ونحن لا نستطيع الموافقة على هذا الرأي: لأن القرآن الكريم ليس كتاب ألغاز، وإنما أنزله الله هدى للناس، ليدبروا آياته، وهو بلسان عربي مبين، وآياته واضحة وبينة.

وقد لاحظ بعض المحققين: ان الحديث عن القرآن الكريم في بعض الآيات، بأنه كتاب مبين واضح، وبأنه قرآن عربي مباشرة بعد ذكر تلك الحروف، كما في قوله تعالى في أول سورة يوسف: (الم تلك آيات الكتاب المبين إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون) لا ينسجم ولا يتناسب مع كون تلك الألفاظ رموزاً أو من قبيل الألغاز الخفية التي لا تستطيع عقولنا أن تدرك معانيها, بل إن ذلك يدل على أن هذه الحروف أُريد بها معنىً واضحاً ومفهوماً.

الرأي الثاني: إن الله سبحانه وتعالى تحدى الناس بالقرآن، بل تحدى الإنس والجن ليأتوا بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً، ولكنهم عجزوا جميعاً عن ذلك، حتى عن أن يأتوا بسورة من مثله, فأراد الله أن يبين لهم أن هذا القرآن الذي أعجزهم الإتيان بسورة من مثله لم يكن مؤلفاً من حروف يجهلونها بل من حروف كحروف ألف ولام وميم، حروفٌ يعرفونها تماماً، وأن القرآن صُنع من هذا الحروف ومن هذه المادة الخام، وأن المادة الخام هذه موجودة بين أيديهم وهي هذه الحروف المقطعة المتنوعة المعلومة لديهم، فإذا كانت عندهم القدرة لصنع مثل هذا القرآن فهذه هي المواد الخام جاهزة عندهم، فلماذا لا يصنعون مثله؟.

ولعل هذا من أبلغ أنواع التحدي، وهذا تماماً كما لو أنك تواجه إنساناً واقفاً أمام لوحةٍ فنية، ذات رسم فني متقن وجميل، فتقول له: هل تستطيع أن ترسم مثل هذه اللوحة؟ ثم تقول له: إن المواد جاهزة إذا كنت تملك الخبرة والكفاءة الفنية. إنه سيقف عاجزاً أمام عظمة الإبداع في الرسم وجهله باصوله الفنية.

وهكذا فإن الله أراد أن يبين للمشركين وللناس من موقع التحدي، أن هذا القرآن مؤلفٌ ومركبٌ من هذه الحروف التي تعرفونها، والتي تستخدمونها في كلامكم وفي كتاباتكم وفي محاوراتكم وإشعاركم، فإذا كانت لديكم القدرة على تأليف مثل هذا القرآن، فهذه المواد موجودة بين أيديكم فلماذا لا تفعلون؟

وقد يكون هذا التفسير للحروف المقطعة أقرب التفاسير إلى الفهم, وكشاهد عليه ما ورد عن الإمامين علي بن الحسين والحسن العسكري (عليهم السلام) حيث قالا: كذّبت قريش واليهود بالقرآن فقالوا: هذا سحرٌ مبين تقوله علينا، فقال الله تعالى (الم ذلك الكتاب) أي يا محمد هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك، هو الحروف المقطعة التي منها ألف ولام وميم، وهو بلغتكم وحروف هجائكم، فأتوا بمثله إن كنتم صادقين، واستعينوا على ذلك بسائر شهدائكم، ثم بين أنهم لا يقدرون عليه بقوله سبحانه وتعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله، ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً).

ولعل مما يدل على هذا التفسير بالإضافة إلى هذا النص:

 أولاً: إننا لم نجد في التاريخ ما يشير إلى أن أحداً من الصحابة أو من غيرهم من المشركين أو من أعداء الإسلام، قد استفهم أو سأل عن معاني هذه الحروف أو عما ترمز إليه، كما أن التاريخ لم يحدثنا ان المشركين أو أعداء الإسلام عابوا على رسول الله (ص) وجود هذه الحروف في القرآن، ولم يتخذوا من ذلك وسيلة للطعن أو للاستهزاء، بالرغم من أنهم كانوا في موقع التحدي للقرآن والإسلام، ويحاولون أن يتمسكوا بأدنى شيء للطعن في الإسلام والقرآن.

وهذا يشير إلى أنهم قد فهموا من هذه الحروف معنىً قريباً إلى أذهانهم، وأنهم لم يكونوا جاهلين تماماً باسرار وجود هذه الحروف في القرآن الكريم.

وثانياً: إن هذه الحروف وردت في تسع وعشرين سورة من سور القرآن، ستة وعشرون سورة نزلت في مكة قبل الهجرة، وثلاث سور نزلت في المدينة بعد الهجرة, ونحن نعلم أن الاجواء في مكة كانت أجواء تحدٍ مع المشركين وأعداء الإسلام.

إن ورود هذه الحروف في خصوص السور المكية، وفي ثلاث سور نزلت في أجواء لا تختلف كثيراً عن أجواء مكة، يدل على أنها جاءت في مقام التحدي للمشركين، وإن عدم طعن هؤلاء في وجود هذه الحروف في القرآن يشير إلى أنهم كانوا يفهمون جيداً اسرار وجودها والغاية من وجودها في أوائل السور وهي: ان هذا القرآن الذي تحدى الناس، يتكون من أمثال هذه الحروف التي هي في متناول الجميع، وتحت اختيار الجميع، ومع ذلك فقد عجز الجميع عن الإتيان حتى بسورة من مثله.

وثالثاً: إننا نجد أن الإيات التي وقعت بعد الحروف المقطعة في معظم السور التي اشتملت على هذه الحروف، نجد أنها تتحدث عن كتاب الله وآياته، وعن عظمة القرآن وإعجازه.

فإننا نقرأ في سورة هود: (الر، كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير).

ونقرأ في فاتحة سورة لقمان: (الم، تلك آيات الكتاب الحكيم).

وفي سورة إبراهيم: (المر، كتاب انزل إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور).

وفي سورة الزخرف: (حم، والكتاب المبين إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون).

إن تعقيب هذه الحروف بمثل هذه الآيات يدل على مدى الارتباط بين الحروف المقطعة، وعظمة القرآن، وأن هذا القرآن المعجزة الذي لم يستطع الناس أن يأتوا بمثله بالرغم من التحدي، مؤلف من هذه الحروف المذكورة الموجودة بين أيديكم، فإذا كنتم ترون في أنفسكم القدرة على مجاراته وتركيب مثله، فهذه الحروف أمامكم فاصنعوا منها ولو سورة مما تشاؤن!.

                                وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين