الهداية الى الصراط المستقيم (7)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(إهدنا الصراط المستقيم) في هذه الآية دعاء يرفعه الإنسان المؤمن إلى ربه يطلب فيه بشكل جازم أن يرشده ويدله على الطريق المستقيم الذي يؤدي به إلى رضوان الله سبحانه.

وطلب الهداية من الله نوع من أنواع التطبيق العملي للاستعانة بالله، فنحن بعد أن نتوجه إلى الله ونقول (إياك نستعين) نقف بين يدي الله لنستعين به في الهداية إلى الصراط المستقيم، وطلب الهداية من الله من أعظم أنواع الاستعانة به عز وجل.

عشر مرات في اليوم على الاقل نطلب فيها من الله خلال صلاتنا أن يهدينا إلى الصراط المستقيم, فما هو المقصود من الصراط المستقيم؟

الصراط في اللغة: الطريق، الجادة, الخط المستقيم، وكلمة المستقيم تعني: المعتدل الذي لا انحراف فيه.

ونحن نعرف أن الخط المستقيم هو: أقصر خط موصل بين نقطتين، كما تقول القاعدة العلمية في الهندسة.

فإذا كان الصراط المستقيم هو الخط المستقيم الذي يعتبر أقصر الخطوط في الوصول إلى الهدف، فإننا نطلب من الله أن يضعنا على الصراط المستقيم لانه أقصر خط يوصلنا إلى رحاب الله ورضوانه.

والصراط المستقيم في التعبير القرآني الذي ندعو الله أن يهدينا إليه في هذه الآية وفي غيرها من الآيات: هو دين الله الذي أنزله على رسوله في كتابه الكريم, وفيما أوحى به إليه من شريعته ومنهجه الحق، وهو الإسلام الذي يتمثل في اسلام القلب والعقل واللسان والحركة والممارسة والكيان كله لله عز وجل.

وعندما نلاحظ الآيات القرآنية التي تحدثت عن الصراط المستقيم، فإننا نجد أن القرآن الكريم عبر عنه بتعابير مختلفة:

عبر عنه مثلاً بأنه الدين القيم ونهج إبراهيم (عليه السلام) الذي هو نهج الإسلام والتوحيد, كما في قوله تعالة من سورة الأنعام: (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم ديناً قيماً ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين) ـ 161.

وبين في موضع آخر أن الصراط المستقيم هو رفض عبادة الشيطان، والاتجاه إلى عبادة الله وحده كما في قوله تعالى: (ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين وأن أعبدوني هذا صراط مستقيم) ياسين/ 61و62.

وهو أيضاً أتباع النبي (ص) فيما أنزله الله عليه من رسالته وشريعته وأوامره ونواهيه، كما في قوله تعالى من سورة الزخرف: (واتبعوني هذا صراط مستقيم) 61. وكذلك في قوله تعالى في سور ة المؤمنون: (وإنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم وان الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون) 74.

كما عبر القرآن عن الهداية إلى الصراط المستقيم بأنها الاعتصام بالله والارتباط به, هذا الارتباط الذي يتمثل بالسير في خط الإيمان به عز وجل وبرسله وبرسالاته, فقال تعالى: (ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم).

كما عبر القرآن عن طاعة الله وعن الالتزام بأوامره ونواهيه بالصراط المستقيم, فقال تعالى: (وإن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السُبُل فتفرَّق بكم عن سبيله) الأنعام / 152.

ونلاحظ في هذه الآية كيف أن الله سبحانه وتعالى ذكر الصراط بصيغة المفرد فقال: (وإن هذا صراطي مستقيماً) وهذا للإشارة إلى أن الصراط المستقيم واحد والدين الإلهي وطريق الحق واحد وليس متعدد وهو الإسلام (إن الدين عند الله الإسلام). بينما طرُق الضلال والانحراف والباطل متعددة, ولذلك جاء التعبير عنها بصيغة الجمع فقال: (ولا تتبعوا السُبُل) فالطريق المستقيم واحد بينما طرُق الانحراف والظلمات متعددة وملتوية.

والخلاصة: إن هذه الآيات واضحة الدلالة على أن الصراط المستقيم هو دين الله بأبعاده المختلفة الفكرية والعقيدية والتشريعية والعملية، فإن دين الله يتضمن كل هذه المعاني التي ذكرناها والتي عبر عنها القرآن بصور مختلفة.

وإذا رجعنا إلى النصوص المروية عن النبي وأهل بيته (صلوات الله وسلامه عليهم) التي تحدثت عن الصراط المستقيم، فإننا نجد أيضاً أنه قد ورد في العديد من الروايات أن المقصود بالصراط المستقيم هو الإسلام, وفي بعض الروايات: إنه القرآن, وفي البعض الآخر: إنه عليُ بن أبي طالب أو الأئمة (عليهم السلام).

وكل هذه المعاني في الحقيقة تعود إلى المعنى الذي ذكرناه وهو دين الله الذي أنزله على رسوله (ص) بابعاده المختلفة، الفكرية والتشريعية والعملية، لأنه من الواضح أن القرآن وعلياً والأئمة (ع) دعوا جميعاً إلى دين التوحيد والإسلام، والالتزام به فكرياً وعملياً، فإذا اهتدينا إلى القرآن وإلى علي وإلى الأئمة فإننا نهتدي إلى الإسلام وإلى الدين الذي أنزله الله على رسوله, وإذا اهتدينا إلى الإسلام فإنه يهدينا إلى الحق وإلى علي والأئمة (عليهم السلام) لأن المقصود بعلي هو الإمام المعصوم والهادي إلى الحق وليس المقصود هو الرجل المكون من لحم ودم.

وعندما نقف نحن بين يدي الله لنطلب منه الهداية إلى الصراط المستقيم, فإن الهداية من الله تعني أن يهيئ الله لنا الأجواء والوسائل والطرق التي نستطيع من خلالها أن نصل إلى الاختيار الصحيح والسلم، وأن يوفقنا إلى ذلك وأن يرشدنا إلى تلك الوسائل.

فهدايته عز وجل لن تكون مثلاً عبر نصب الدلائل الواضحة والفارقة بين الحق والباطل, وبين طريق الله وخط الشيطان، وتكون أيضاً عبر إرسال الرسل وإنزال الكتب والشرائع السماوية التي بيّن الله فيها طريق الحق والخير والطريق المستقيم، وتتمثل هداية الله لنا أيضاً بالتوفيق الإلهي واللطف الإلهي الذي يثير في نفس الإنسان الأفكار والمشاعر والأجواء التي تفتح عقله وقلبه على الحق والخير والالتزام بالخط الإلهي.

فعندما نقول إهدنا الصراط المستقيم يعني: يا رب وفقنا وارشدنا للسير في الطريق المستقيم من خلال تهيئة وسائل الهداية.

ولذلك فقد جاء في الحديث عن أمير المؤمنين علي (ع) أنه قال في تفسير (إهدنا الصراط المستقيم): أي أدم لنا توفيقك الذي أطعناك به في ما مضى من أيامنا، حتى نُطيعك في مستقبل أعمارنا.

وعن الإمام الصادق (ع): يعني أرشدنا للزوم الطريق المؤدي إلى محبتك والمبلغ إلى جنتك، والمانع من أن نتّبع أهواءنا فنعطب أو أن نأخذ بآرائنا فنهلك.

وقد يخطر ببال البعض أن يقول: ما دمنا قد أسلمنا وآمنا فقد حصلت الهداية إلى دين الله الذي هو الصراط المستقيم, فلماذا نطلبها وهي موجودة لدينا؟

ونجيب على ذلك بأمرين:

أولاً: صحيح أن الله سبحانه قد رسم لنا بالإسلام طريق الهداية، وصحيح أنه بعد أن اعتقدنا بالإسلام وآمنا نكون قد اهتدينا، ولكن قلنا بأن الصراط المستقيم هو دين الله والإيمان به, والإيمان له درجات، ومهما سما الإنسان في مراتب الإيمان فإن هناك مراتب ودرجات أخرى أبعد وأرقى وأرفع، والإنسان المؤمن يتطلع دوماً بشوق إلى أن يصل إلى أعلى مراتب الإيمان والعبادة، فيحتاج دائماً إلى أن يستمد العون من الله، وأن يطلب الهداية منه سبحانه حتى يصل إلى الدرجات العليا ويزداد هدى على هدى, فالله تعالى يقول: (ويزيد الذين اهتدوا هدى).

ويقول: (والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم).

وقد صرح أمير المؤمنين (ع) بأن الإيمان والعبادة لله درجات ومراتب فقال (ع): إن قوماً عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار، وان قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وان قوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار.

وهو الذي يقول: ما عبدتك خوفاً من عقابك ولا طمعاً في ثوابك، ولكني وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك.

الحد الأدنى من العبادة وهو عبادة التجار قد يسقط التكليف ويمنع من العقاب, ولكن قد لا يثاب عليه ولا يفيده شيئاً في إيصاله إلى الهدف الأسمى وهو الحصول على درجات القرب من الله ونيل رضاه, فالعمل الذي يسقط التكليف هو الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل, ثم بقدر إخلاص الإنسان وصدقه في عبادته، وبقدر ما يبذله من جهد بقدر ما يقترب من الدرجات العليا.

فإذا كان الإنسان في درجة ومرتبة عبادية معينة, كما إذا كان يصلي ولكن صلاته لا تنهاه عن الفحشاء والمنكر، فإنه يحتاج إلى هداية ومعونة اخرى لينتقل منها الى درجة أعلى بحيث تصبح مثلاً صلاته تنهاه عن الفحشاء والمنكر، ثم إلى درجة أعلى وأوسع وأرحب وأرقى وهكذا.

ووسائل الارتقاء هي: الصبر والإخلاص في العمل، وجهاد النفس، وتحمل المسؤوليات الإلهية.

والخلاصة: إننا بحاجة إلى هدايات إلهية جديدة ومستمرة لنتمكن من الاستمرار بحركتنا تجاه المراحل العليا والمراتب السامية التي ترفعنا إلى درجة عبادة الأحرار, فلا بد من طلب الهداية باستمرار ولا بد من الإلحاح في الطلب بقولنا (إهدنا الصراط المستقيم), هذه نقطة.

والنقطة الثانية: إننا وإن كنا مؤمنين ومسلمين ومهتدين، ولكننا معرضون دائماً بسبب العوامل المضادة، والشهوات والمغريات والأهواء ووساوس الشياطين وزينة الحياة الدنيا، نحن معرضون دوماً وفي كل لحظة إلى خطر الإنحراف عن الطريق المستقيم وترك الالتزام بدين الله وأوامره ونواهيه، والوقوع في المعاصي والذنوب والأخطاء الكبرى, فحاجتنا إلى المعونة وإلى الهداية من الله حاجة قائمة ودائمة، ولذلك فلا بد أن يستمر طلبنا للهداية عشر مرات على الاقل في اليوم حتى نثبت أقدامنا على الصراط المستقيم وحتى لا نسقط أمام التحديات.

ومما يدل على ذلك ما ذكر من أن نصرانياً اجتمع في زمن الخليفة الأول مع رجل كان نصرانياً وأسلم، فقال له: كيف تقرأ دائماً إهدنا الصراط المستقيم؟ هل هذا يعني بأنك ما زلت في الشكوك وعدم الهداية؟ وإذا كنت شاكاً فيه, فلماذا لا تعود إلى ديننا فإننا واثقون منه وليس لدينا شك فيه ولا نحتاج إلى الهداية!؟

فوسوس له الشيطان وأغواه وصدق حديث رفيقه النصراني فارتد عن الإسلام.

وانتشرت القصة بين الناس ووصلت إلى الخليفة الاول، فأرسل إلى علي (ع) وعرض عليه القضية، فكتب علي (ع) رسالة إلى النصراني قال فيها:

وأما معنى الآية إهدنا الصراط المستقيم التي أوقعت الشك في قلبك, فاعلم بأنه ليس المقصود منها الهداية العامة للإنسان المسلم الذي استسلم لله واهتدى إلى الحق وآمن وصدق بالله وبالرسالة، وإنما المقصود الهداية الخاصة حيث يطلب المؤمن دائماً من ربه أن يهديه الصراط المستقيم, وأن يثبت الإيمان في قلبه حتى لا يوسوس له الشيطان بالغواية والإنحراف.

وبعد أن وصلته الرسالة وقرأ ما فيها رجع النصراني إلى الإسلام بعد أن أدرك أن طلب الهداية من الله هو أن يثبته في مواجهة التحديات فلا يهتز إيمانه ولا يتزلزل في مقابلها.

أما إذا انقطعنا عن طلب الهداية وأحسسنا بعدم الحاجة إليها، فإننا بذلك نكون قد قطعنا صلتنا بالله واصبحنا هدفاً للأهواء والشهوات والشياطين والطغاة والمستكبرين، ولقمة سائغة لهم.

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين