التوحيد ورفض التسليم لغير الله (6)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.لا يزال الحديث في قوله تعالى: (إياك نعبد وإياك نستعين) وقد قلنا في الحلقة السابقة إن هذه الآية تتحدث عن توحيد العبادة وعن توحيد الاستعانة والافعال، وقد ذكرنا بان المقصود بالعبادة هو الانقياد والطاعة والخضوع المطق لله سبحانه وتعالى،

 وأن العبادة والطاعة تتحقق بالصلاة والصوم وسائر العبادات التي أمرنا الله بها، كما ذكرنا بأن توحيد العبادة يعني: الاعتراف بأن الله سبحانه هو وحده اللائق بالعبادة والطاعة, كما يعني: رفض التسليم والخضوع لغير الله، كالخضوع للشهوات والاهواء والجاه والموقع السياسي أو الاجتماعي، وكعبادة المال والاشخاص من المقامات والزعامات وما شاكل ذلك، فإن الإنسان الذي يستغرق في مثل هذه الأمور فيستسلم لها حتى كأنه يمنحها صفة الإله في استسلامه وخضوعه المطلق لها، تماماً كما لو كانت إلهاً معبوداً، فهو في الحقيقة يعبد أهوائه وشهواته, وهو من الشرك في العبادة.

وإذن فنحن عندما نقول: (إياك نعبد) نحن نخاطب الله ونتضرع إليه لنؤكد اننا نتجه إليه وحده ونعبده وحده, لأنه وحده الذي يستحق العبادة والطاعة، وانه لا موقف لنا أمامه سوى التسليم المطلق لكل ما أمر به ولكل ما نهى عنه, كما نؤكد من خلال (إياك نعبد) الإعراض عن اي من العبودية والتسليم لغير الله، هذا هو الموقف الذي نعبر عنه ونعلنه بقولنا: (إياك نعبد).

ولكن ما مدى صدق هذا الموقف وهذا الإعلان؟ أي إلى أي حدٍ نحن ملتزمون عملياً بالتسليم المطلق لله ورفض التسليم لغيره؟؟

في الحقيقة إن صدقنا وإخلاصنا في هذا الموقف يرتبط بدرجة إيماننا, ومن الواضح أن الأشخاص ليسوا في درجةٍ واحدة من حيث الصدق والإخلاص في التسليم والطاعة لله, فبعض الافراد يحقق تقدماً إلى الحد الذي لا يتحكم في وجوده واعماله وأقواله وسلوكه ومواقفه سوى أوامر الله، وهو يرفض أن تكون هناك سلطة آمرة تتحكم به سوى الله, فلا يستطيع هوى النفس ولا رغباتها ولا شهواتها أن تُرغمه على تغيير اتجاهه نحو الله.

ولا يستطيع لا المقام ولا الاعتبار ولا المال ولا الموقع والمنصب أن يجبره على الإنحراف عن خط الله.

ولا يستطيع أي إنسان آخر مهما كان كبيراً أو عظيماً، أن يسخره لأوامره ورغباته وإرادته, وهو لا يسمح لرغباته النفسية والخارجية أن تعمل إلا في الحدود التي تحقق رضا الله، ولذلك فهو يجيز لنفسه طاعة أوامر الأفراد الآخرين من قبيل الاب والأم وولي الأمر والقيادة الصالحة من أجل إحراز رضا الله وفي حدود ما رسمه الله، لأن طاعة هؤلاء بالمقدار الذي يريده الله هي من طاعة الله سبحانه وتعالى.

ويحقق بعض الأشخاص تقدماً أعظم ويصلون إلى درجةٍ اكبر مما تقدم، فلا يرون محبوباً ولا مطلوباً ولا معشوقاً سوى الله, كالشهداء الذين يقدمون أرواحهم في سبيل الله فرحاً بلقاء الله.

والبعض الآخر يخطو نحو الإمام أكثر فلا يرى في الوجود إلا الله وآثاره، أي أنه يرى الله في كل شيء، وكل شيء آخر ليس إلا مرآة تعكس وجوده، فيصبح الكون كله كالمرآة، فأينما اتجهنا فلن نرى سوى الله ومظاهره المتعددة, وهذه هي درجة الأولياء, وهذا ما عبَّر عنه علي (ع) عندما قال: (ما رأيت شيئاً إلا ورأيت الله قبله ومعه).

ونحن إذا استطعنا أن نصل إلى هذا المستوى وإلى درجة أن لا يتحكم في وجودنا وفي حركتنا وفي مواقفنا إلا الله ولا نتجه إلا إليه سبحانه وتعالى, نكون قد انتهينا إلى مرحلة الصدق والإخلاص في عبادتنا لله.

وإذا استطعنا أن نطبق في حياتنا ما نناجي به الله في عبادتنا, نكون قد انتهينا إلى مرحلة الصدق والإخلاص في العبادة ونكون قد التزمنا عملياً بالتسليم المطلق لله وحده.

 والتوحيد في العبادة والتسليم المطلق لأوامر الله، والتحرر من طاعة غير الله، هو عاملٌ مهمٌ لتربية الإنسان الروحية، وهو درسٌ لنا في الإطمئنان والحرية، لأن التعبد لله وحده يعطي الإنسان الشعور بالحرية الداخلية تجاه كل القوى الأخرى، تشعر بأنك جزءٌ من العالم كله وأنك حرٌ أمام العالم كله, وأنك لست خاضعاً, لست عبداً, لست منقاداً, لست مسحوقاً أمام أية قوة من قوى العالم سواء كانت قوى طبيعية أو قوى بشرية، لست خاضعاً إلا لقوة واحدة وإرادة واحدة هي إرادة الله، وكل القوى الأخرى مهما كبرت وهما عظمت ومهما كان موقعها الاجتماعي أو السياسي أو الأمني إنما هي قوى زميلة  وقوى رفيقة، انت رفيقها لأنك مثلها في عبوديتك لله الواحد سبحانه وتعالى.

وهنا قد نتساءل: إذا كانت العبادة مختصة بالله ومحصورة به، فما هو وجه تسمية بعض الناس (بعبد النبي) أو (عبد الحسين) أو ما شاكل ذلك؟ ألا يتنافى ذلك مع توحيد العبادة؟؟

ونقول: الواقع إنه ليس المقصود بالعبد في مثل هذه التسميات هو العبودية بمعنى العبادة التي تحدثنا عنها، بل المقصود هو العبودية بمعنى المملوكية في قبال الحرية، فقد جاء في كتب اللغة أنه يقال: عبّدت نفسي فلاناً, أي بمعنى ملكتُه نفسي، ويقال: أعبدني فلانٌ فلاناً اي ملكني إياه, فالعبد هو المملوك وهو خلاف الحر. فالمقصود في مثل هذه التسميات هو إظهارُ نوع من أنواع التواضع والتقدير لرسول الله (ص) ولأهل بيته الأطهار (صلوات الله وسلامه عليهم).

وقد رُوي عن الإمام الصادق (ع) أن أحد أصحابه قال له: جعلتُ فداك إنا نسمي بأسمائكم واسماء آبائكم فينفعنا ذلك؟

فقال (ع):  أي والله، وهل الدين إلا الحب والبغض.

أضف إلى ذلك, أن هذا النوع من الاسماء كان موجوداً في التاريخ, مثل عبد المطلب، وعبد قيس، وعبد شمس، وما شاكل ذلك. وقد كانت هذه الأسماء متداولة حتى في عهد رسول الله (ص) ومع ذلك نجد أن النبي (ص) لم يعمل على تغييرها, مما يعني بأنها لا تتنافى مع حصر العبادة بالله, لأن العبودية فيها بالمعنى الذي ذكرناه وليست بمعنى العبادة لله سبحانه وتعالى.

هذا كله فيما يتعلق بتوحيد العبادة في قوله تعالى: (إياك نعبد).

وإذا كانت الآية أكدت على التوحيد في العبادة فقد أكدت على التوحيد في الاستعانة في قوله تعالى: (وإياك نستعين) فإذا كان الله لا يريد لنا أن نعبد غيره، فإنه لا يريد لنا أن نستعين بغيره, لتكون الاستعانة به وحده.

فالتوحيد في الاستعانة يعني: بأن الله وحده القادر على الإعانة، لأنه وحده الذي يملك الأمر كله، ولا يستطيع احدٌ أن يقدم عوناً لنفسه أو للآخرين من حوله، بدون إرادة الله وبدون استمداد العون منه سبحانه وتعالى.

التوحيد في الاستعانة يعني أن كل الافعال والأعمال التي تصدر من الناس ناشئةٌ من إرادته وقدرته عز وجل, فكل سبب وواسطة وفاعل قد اكتسب وجوده وتأثيره من الله, وهو لا يؤثر إلا بقدرة الله, فالطبيب مثلاً: لا يشفي إلا بقدرة الله, والغني لا يعطي إلا من المال الذي رزقه الله وهكذا..

التوحيد في الاستعانة يعني رفض أن يكون هناك أي مخلوق وأي موجود غير الله له تاثيرٌ مستقلٌ في الأفعال والاشياء، فلا أحد غير الله يملك تأثيراً مستقلاً بمستوى تاثير الله في الأشياء بمعزل عن إرادة الله وقدرته.

الله وحده هو الذي يؤثر في الاشياء بصورة مستقلة، ومن عداه مهما كان يملك من قوة وقدرة وتأثير فإنه يكتسب قوته وتأثيره من الله عز وجل.

وهنا قد نسأل: كيف يلتقي التوحيد في الاستعانة وحصرها بالله مع حاجتنا إلى الاستعانة بالناس في كثير من أمورنا وشؤوننا؟ فنحن لا نستغني عن غيرنا في قضاء بعض حاجاتنا فنحتاج إلى أن نستعين بالطبيب مثلاً للتوصل إلى العلاج والشفاء، ونحتاج إلى الاستعانة ببعض الاسباب والوسائط لقضاء حاجاتنا, فهل ان ذلك يتنافى مع حصر الاستعانة بالله ومع قولنا ونحن نخاطب الله (إياك نستعين)؟؟

والجواب: أن الإستعانة بالآخرين في بعض أعمالنا وشؤوننا لا تلازم الاعتقاد بوجود مؤثر غير الله بنفس مستوى التأثير الإلهي في الأشياء.

 الاستعانة بالآخرين في قضاء حاجاتنا إنما هي من أجل أننا لا نرى في أنفسنا في بعض الحالات أهلية القيام ببعض الاعمال لقلةِ الخبرة، فنطلب من الآخرين أن يقوموا بها، ولكن لا بقدرةٍ ذاتية مستقلة وإنما بقدرة الله سبحانه، فالله يهيئ لنا هؤلاء ويمنحُهم القدرة على فعل ذلك العمل.

فالطبيب نطلب منه العلاج فإذا شفي المريض فإن الله هو الذي شفاه, وإذا ساعدني شخص على قضاء حاجة حياتية معينة فإن الله هو الذي قضاها، لان الله هو الذي منح القدرة والقوة لهذا ولذاك.. وبدون قدرة الله وعون الله لا يستطيع لا الطبيب ولا غيره أن يقضي الحاجة وان يقدِّم المساعدة.

فالله هو أساس كل قدرة، ومن مواقع قدرته كانت قدرتنا على فعلِ الأشياء والأعمال, فهو المعين وهو مصدر الاستعانة, وكل هذا لا يتنافى مع حصر الاستعانة به عز وجل.

وهكذا عندما نتوسل بالأنبياء والأولياء أو نستعين بهم على قضاء حاجاتنا، فمثلاً عندما نواجه المستكبرين والطغاة ونقول: يا مهدي أدركنا, أو عندما نريد أن نتقوّى على العمل الكبير ونقول (يا علي) أو عندما نقول: (يا حسين) و(يا زهراء) وما إلى ذلك، فقد يقال إن هذا نوع من أنواع الاستعانة بالمخلوق وهو لا ينسجم مع التوحيد في الاستعانة بالله, فلا يجوز أن نقول ذلك لأنه شرك بالله!!

ولكننا نقول: بان القرآن أكد على طلب العونِ والاستعانة بغير الله, أمرنا أن نستعين بالصبر وبالصلاة وبالتقوى مثلاً على كثير من أمورنا, فقال تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرةٌ إلا على الخاشعين).

وقال تعالى: (واستعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين).

وقال تعالى: (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) فلو كان ذلك شركاً بالله فهل يأمر الله بالشرك؟

وإذن: فالقضية هي أننا عندما نستعين بالنبي أو الولي نفعل ذلك من أجل اننا لا نرى في أنفسنا أهلية الوقوف بين يدي الله والطلب منه بسبب ما ارتكبناه من ذنوبنا، فنطلب من هذا النبي أو الولي أن يتولى هو طلب حاجاتنا من الله، فإذا قضيت الحاجة فالله هو الذي قضاها, وهذا ليس من الشِرك في شيء بل هو عين التوحيد.

والخلاصة: إن الحد الفاصل بين التوحيد في الاستعانة بالله والشرك هو أن التوحيد أن نعترف بأن الله هو المؤثرُ الحقيقي في كل أعمالنا وفي كل شيء في هذا الوجود. والشرك هو أن نعتبر أن مخلوقاً ما له تاثيرٌ بشكلٍ مستقلٍ وذاتيٍ على حدِ التأثير الإلهي وبمستواه في الأفعال وفي الأشياء.

فنحن عندما نستعين ببعضنا البعض أو نستعين بالأنبياء والأولياء, فإننا لا نعتبرُ أنهم يقضون الحاجات بقدرة ذاتية مستقلة بل بقدرة الله وبعونه وتأثيره سبحانه وتعالى, باعتباره مصدرُ كلِ عونٍ ومصدر الاستعانة.

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين