هل للصوم آليات مختلفة وأنواع متعددة؟!!

أشكال الصوم وأنواعه (5)

هل للصوم آليات مختلفة وأنواع متعددة؟!!"يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون".

عرفنا فيما تقدم ان الغاية الكبرى من الصوم هي ان يحصل الانسان على ملكة التقوى. وما نريده هنا هو ان نتعرّف على اشكال الصوم وانواعه التي تحقق لنا هذا الهدف وتصل بنا الى هذه الغاية. يمكن ان نتصور الصوم على ثلاثة اشكال : الصوم الشرعي المادي ،والصوم الاخلاقي ،والصوم الفكري الروحي .

الصوم الشرعي المادي: هو ان نمتنع عن الاكل والشرب وعن اللذات الجسدية وعن سائر المفطرات المذكورة في كتب الفقه.وهذا النوع من الصوم  اذا فعلته والتزم به فقد امتثل الامر الالهي بالصوم وسقط عنه الواجب ،ومن المسلم به حصول منفعة الدنيا وثواب الآخرة من خلال هذا النوع من الصوم وان كان بحد ذاته لا يحقق جميع الفوائد المرجوة من الصيام .

وهناك نوع اخر من الصوم هو الصوم الاخلاقي : وهو يعني بالاضافة الى صوم البطن عن الاكل والشرب ، أن تصوم الجوارح ،اي ان  يصوم اللسان وان تصوم العين وان تصوم الاذن واليد والقدم وسائر اعضاء الانسان. وليس المقصود ان تصوم هذه الجوارح عن المحرمات فقط ،بل ان تصوم عن المحرمات وعن المكروهات وعن الشبهات ايضاً ،ان تصوم عن الكذب وعن النميمة  وعن السب والشتم وعن إيذاء الناس وعن ظلم الناس و الاعتداء على ارواحهم واحوالهم واعراضهم، وان تصوم عن كل ما يكرهه الله عز وجل .

ومن هنا فقد ورد عن علي (ع) ان الصوم الحقيقي هو الامساك عما يكرهه الله عز وجل ، قال(ع) : "ليس الصوم الامساك عن المأكل والمشرب ،الصوم الامساك عن كل ما يكرهه الله سبحانه" .

كما ورد في بعض الروايات: ان من يكذب في شهر رمضان المبارك  او يغتاب احداً او يتهم احداً او يؤذي بلسانه احداً فانه لا صوم له ، يعني ان الصوم يفقد روحيته وقيمته ومعناه ،ويتحول الى مجرد شكل من الاشكال وطقس من الطقوس التي لا يستفيد الانسان منها شيئاً لحياته ولا لتقواه ولا لسلوكه.

فقد ورد عن الصادق (ع) انه قال  : " من كذب على الله ورسوله وهو صائم فقد نقض صومه ". وسمع رسول الله (ص) امرأة صائمة تسب جارية لها ،فدعا رسول الله بطعام ونادى تلك المرأة وقال لها : كلي ،فقالت : اني صائمة  يارسول الله ! فقال (ص) : كيف تكونين صائمة وقد سبيت جاريتك ، إن الصوم ليس من الطعام والشراب . الكافي ج 4 /87 .

شهر رمضان شهر الضيافة الإلهيةوعن الإمام الصادق (ع) انه قال : إن الصيام ليس من الطعام والشراب وحده، إذا صمت فليصم سمعك وبصرك من الحرام والقبيح، ودع المراء وأذى الخادم  ، وليكن عليك وقار الصيام،ولا تجعل يوم صومك كيوم فطرك .ج 4 /87 ....وعنه (ع) في حديث اخر انه قال : انما للصوم شرط يحتاج أن يحفظ حتى يتم الصوم ،وهو صمت الداخل ،اما تسمع ما قالت مريم بنت عمران : اني نذرت للرحمن صوماً فلن اكلم اليوم إنسياً ، يعني صمتاً ،فإذا صمتم فاحفظوا السنتكم عن الكذب ولا تغتابوا ولا تماروا ولا تكذبوا ولا تباشروا ولا تخالفوا ولا تغاضبوا ولا تسابوا ولا تشامتوا ولا تفاتروا ولا تجادلوا ولا تظلموا ولا تغفلوا عن ذكر الله وعن الصلاة، والزموا الصمت والسكوت والحلم والصبر والصدق ومجانبة أهل الشر ، واجتنبوا قول الزور والخصومة وظن السوء والغيبة والنميمة، وكونوا مشرفين على الآخرة منتظرين لأيامكم منتظرين لما وعدكم الله به متزودين للقاء الله، وعليكم بالسكينة والوقار والخشوع والخضوع.

إذاً هذا نوع اخر من الصوم وهو ان تصوم صوماً اخلاقياً يجعلك تراقب نفسك في ما تريد ان تتكلم به كما تراقب نفسك فيما تريد ان تأكل وتشرب . وهكذا تراقب نفسك فيما حرمه الله عليك من الافعال والاعمال الاخرى ،لان الله جعل للانسان صومين ،صوماً صغيراً وصوماً كبيراً.

أما الصوم الصغير فهو ان تصوم في شهر رمضان عما ارادك الله ان تمسك عنه. واما الصوم الكبير فهو صوم العمر كله عن كل ما حرم الله عليك مما تقول ومما تفعل ومما تتحرك فيه من مواقف ومن علاقات على كل المستويات، والصوم الصغير مقدمة للصوم الكبير ،المعركة الصغيرة مع النفس في شهر رمضان هي مقدمة للمعركة الكبيرة مع النفس في غير شهر رمضان ،ولذلك لا بد لنا ان نعيش هذا النوع من الصوم في كل حياتنا.

والنوع الثالث من انواع الصيام  هو الصوم الفكري الروحي ،وهو يعني بالإضافة  الى صوم البطن والجوارح والاعضاء .ان يصوم القلب والعقل والفكر عن خواطر السوء .ان يصوم الانسان عن الافكار السيئة والنيات السيئة والدوافع السيئة.

ولهذا اذا اردت ان تكون الصائم التقي فلا يكفي ان تكون اعضاؤك صائمة عن الشر وعن الجريمة وعن الحرام بل المفروض ان تكون افكارك صائمة ومشاعرك صائمة وان تكون نياتك صائمة عن الشر وعن الجريمة وعن الحرام، لان للفكر وللمشاعر وللنيات صوماً ايضاً كما للجوارح والبطن صوماً، فان الانسان اذا اراد ان يفكر قد يفكر تفكير الخير الذي يبني للحياة سلامتها ويبني للناس قوتهم وحياتهم ،وقد يفكر تفكير الشر عندما يخطط للشر وعندما يفكر في إيذاء الناس وفي العدوان عليهم وفي نهب اموالهم وفي الاعتداء على اعراضهم وحياتهم .

اللهم بلغنا رمضانالله يقول لمن يفكر هذا الفكير الشرير ليصم فكرك عن الشر وليتحرك تفكيرك في مجالات الخير والاحسان. والانسان ايضاً قد يفكر تفكيراً عادلاً وقد يفكر تفكيراً ظالماً فيجب ان يصوم الفكر عن التفكير بظلم الناس، فلا تظلموا الناس في افكاركم عندما تحققون الانطباع في انفسكم عنهم من خلال الظن ومن خلال المصادر غير الموثوقة ،ولذلك لا بد للانسان ان يكون عادلاً في انطباعاته عن الاشخاص وعن الناس.

ومن هنا فان المطلوب ان نصوم صوماً مادياً وان نصوم صوماً اخلاقياً وان نصوم صوماً فكرياً روحياً في عقولنا وافكارنا ومشاعرنا، فالله يريدنا ان نصوم عن محبة اعداء الله ،وان نصوم عن بغض اولياء الله ،وان لا نحب إلا الطيبين المؤمنين الذين يطيعون الله في حياتهم، وان لا نبغض الا أعداء الله في كل ما يخططون ويعملون له ،ان لا نوالى الا المؤمنين وان لا نعادي الا الكافرين المستكبرين ،ذلك هو صوم العقل والفكر والروح والمشاعر .

في شهر رمضان يجب ان يتقدم الانسان خطوة خطوة الى الامام لينتقل من الصوم المادي الى الصوم الاخلاقي ثم الى الصوم الفكري الروحي ،ليصل الى اخر شهر رمضان وقد تلاشت خواطر السوء من قلبه وعقله وفكره، ليصل الى اخر شهر رمضان وقد بلغ مرتبة صفاء القلب فتملك الله قلبه وعقله وروحه، واصبح من اولئك الذين وصفهم القرآن بقوله تعالى : ( رجال لا تلهيهيم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والابصار ) النور /37 .

النص من إعداد : الشيخ علي دعموش