ما الغاية من الصوم ولماذا فرض علينا؟!

فلسفة الصوم .. غايته التقوى (3)

"يا ايها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون""يا ايها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون"، قلنا إن الآية تشير إلى أن الصيام فريضة دينية لازمة على لا المؤمنين المسلمين وحسب بل إنه فرض على اتباع الشرائع السابقة. وقد بينا فيما مضى هذا المضمون وشرحنا تاريخ هذه العبادة وكيفية ممارسة بعض المنتسبين للديانات السماوية لها. وبقي ان نبين الأمر الثالث من الامور الثلاثة التي بينتها هذه الآية وهو : فلسفة هذه الفريضة الآلهية.

ما هي فلسفة وغاية الصوم ؟!:

فقد ذكرت الآية فلسفة وغاية الصوم في عبارة قليلة الالفاظ والكلمات ولكنها عميقة المحتوى ، تقول الآية (لعلكم تتقون ) اي فرض عليكم الصوم رجاء ان تتقوا ومن اجل ان تحصلوا على التقوى . والتقوى هي عبارة عن ملكة نفسانية توجب قدرة النفس الانسانية على إمتثال ما أمر الله به،والابتعاد عما نهى الله عنه من المعاصي والذنوب.
فالصوم اذا اخلصتم فيه يدفعكم الى تجنب المحرمات واتقاء الوقوع فيها.

وتوضيح ذلك : ان الصوم هو عملية ردع للنفس عن شهواتها الغذائية واللذات الجسدية المباحة اطاعةً لله لأن الله أمر بذلك ، فممارسة هذه العملية تجعل الانسان قادراً على ردع نفسه ايضاً عن اللذات المحرمة لأن الله نهى عنها.
وبتعبير اخر: من يمارس الصوم ويمنع نفسه عن الاكل والشرب وسائر اللذات المادية التي اباحها الله، يتدرب على اتقاء المحرمات واجتنابها وتتربى نفسه وارادته على الامتناع عن المعاصي والذنوب،لان من يستجيب لامر الله ويمتنع عن شهوات النفس المباحة كالاكل والشرب وغيره ويطيع الله في الكف عن ذلك فانه سوف يكون اكثر طاعة واستجابة لله في الكف عن المحرمات التي نهى الله عنها .

وبعبارة اخرى: الصوم يؤثر في الانسان من جهتين : فهو يربي في الانسان الارادة القوية التي تجعله قادرا على الامتناع عن المعصية ومخالفة أوامر الله ونواهيه من جهة، ومن جهة اخرى ينمي في الانسان  الاحساس بوجود الله والشعور برقابة الله عليه.

اما كون الصوم يربي في الانسان الارادة القوية وملكة الصبر ، فلأننا في يوم الصوم نعيش الحرمان في ما نحب من مأكولات ومشروبات وملذات وشهوات، والنفس تلح علينا ونحن نتحمل الحرمان في ذلك كله ونصبر،نضغط على انفسنا ،نضغط على ارادتنا، نصبر ونحن نتألم،نتألم لان الطعام امامنا ولا ناكله ولان الشراب امامنا ولا نشربه، نتألم والجوع يفتك بكل اجهزتنا الجسدية والعطش يفتك بنا، ونصبر في شهر رمضان على ذلك كله تقرباً الى الله لان الله امرنا ان نصوم فيه عن كل ذلك . هذا الصبر وهذا التحمل يدرب الانسان على الصبر والتحمل في مجالات اخرى ويربي في الانسان الارادة، ارادة التحمل والصبر التي تستطيع من خلالها الامتناع عن المعصية عندما تأتيك المعاصي لتخاطب غرائزك ولتخاطب اطماعك ولتخاطب كثيراً من نوازعك الذاتية.

"يا ايها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون"واما كون الصوم يربي في الانسان الأحساس بالله وبرقابته عليه، فلأن الصيام موكول الى نفس الصائم ولا رقيب عليه الا الله ،انت في الصوم تشعر بأنك وحدك لان الصوم سر بين العبد وربه ، قد لا يُشرف ولا يطلع عليك احد غير الله، قد لا يراك اهلك ولا يراك الناس من حولك وقد تجوع وترى الاكل وترى الماء البارد والزوجة الحسناء وتقول لك نفسك : ان لك ان تأكل لانه ليس هناك أحد تخافه او تخجل منه ولكنك لا تفعل ذلك ، لماذا ؟ لانك تقول لنفسك عندما تدعوك الى تناول  الطعام ولا احد هناك ، وعندما تدعوك الى الشراب ولا احد هناك تقول لنفسك: صحيح لا احد هناك ، ولكن الله موجود يراقبني وهو اعلم مني بنفسي وهو الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، اذا كان الله يعلم ما لا اعلمه من نفسي فكيف اتستّر من الله ، وهل يمكن ان اتستر من الله الذي لا ساتر يحجبه عن خلقه او يحجب خلقه منه وهو الذي يبصر من فوق عرشه ما تحت سبع أرضين ولا تغشى بصره الظلمة !.

اذاً، فالصوم الذي هو سر بين العبد وربه يجعل الانسان صاحب ضمير ويجعل الانسان  يعيش الوازع الديني ويُنمي في الانسان الاحساس والشعور برقابة الله، ولذلك فهو يمتنع عن الطعام والشراب وسائر المفطرات في الحالات التي يكون فيها وحيداً لا يراه احد بدافع من هذا الشعور وبدافع من هذا الاحساس ، ويزداد هذا الشعور برقابة الله في غير اوقات الصيام وينعكس هذا المعنى على اجتناب سائر الشهوات المحرمة في بقية اشهر السنة، لان من يشعر برقابة الله عليه وهو صائم فلا يقدم على تناول المفطرات وهو وحده، ينمو هذا الشعور عنده في غير شهر رمضان فلا يُقدم على تناول المفطرات وهو وحده ، ينمو هذا الشعور عنده في غير شهر رمضان فلا يقدم على اي محرم ولا يقدم على غش الناس ومخادعتهم ولا يقدم على اكل اموال الناس بالباطل ولا يحتال على الله بأكل الربا ولا يرتكب اي منكر في السر ولا في العلن ،  فالصيام أعظم وسيلة لزيادة الشعور برقابة الله ولتنمية الاحساس والشعور بوجوده سبحانه وتعالى. 

والخلاصة : ان الصوم يربي في الانسان الارادة القوية وينمي في الانسان الاحساس بالله ، ووجود  هاتين الصفتين في الشخصية الانسانية، صفة الارادة وصفة الاحساس والشعور برقابة الله ،يجعل الانسان متماسكاً امام المحرمات وقادرا على اتقائها، وبذلك تحصل للإنسان ملكة التقوى من خلال ممارسته لعبادة الصيام.

وهكذا فقد اراد الله من خلال العبادات التي فرضها على الناس وفي مقدمتها الصوم ان يصنع الانسان التقي الذي يعيش في الحياة ولا يحتاج الى سلطة تفرض عليه النظام والالتزام والاستقامة، بل ان شعوره بسلطة الله عليه وعلى الحياة يجعله يحاسب نفسه قبل ان يحاسبه الناس ، ويجعله يحاكم نفسه قبل ان يحاكمها الناس،ويجعله يضغط عليها بان لاتعتدي وان لا تظلم وان لا تسيء وان لا ترتكب الحماقات قبل ان يضبطها الناس. فمن صام واستطاع ان يحصل على التقوى فقد حصل على عمق الصوم ، اما من صام ولم يحصل على التقوى فانه يصدق عليه القول المأثور المروي عن رسول الله (ص) : (رب صائم ليس له من صيامه الا الجوع والظمأ ، ورب قائم ليس له من قيامه الا العناء والسهر) .

ولذلك علينا ان نراقب انفسنا عندما نصوم ، ان نعرف انفسنا في كل يوم : هل استطعنا ان نتقرب الى الله ام اننا ابتعدنا عن الله ؟هل استطعنا ان يكون التزامنا بما احل الله وبما حرمه الله اكثر ام هو اقل من ذلك ؟ هل اننا نتحرك في خط التقوى ام اننا نتحرك في الخط المضاد لها ؟. لا بد ان نراقب انفسنا في كل ذلك حتى نستطيع ان نصل من خلال صيامنا الى الغاية التي اراد الله لنا ان نصل اليها في شهر رمضان وهي التقوى.

 وفي كلمة ( لعلكم تتقون ) سر اخر فالله يريد ان يبين لنا من خلال هذه الكلمة ايضا ان فائدة الصوم وآثاره الايجابية ترجع الى الصائم وليس الى الله فالصائمون هم الذين يحصلون على نتيجة الصيام وهي التقوى والقدرة على اجتناب المعاصي والمحرمات التي ليست في مصلحة الانسان ،والله غني عن الناس وعن عبادتهم وعن صيامهم (يا ايها الناس انتم الفقراء الى الله والله هو الغني الحميد )فاطر /15....

النص من إعداد : الشيخ علي دعموش