محاضرة القيت في النبي شيت تحت عنوان "الجانب الاجتماعي والسياسي في شخصية الرسول (ص)"

الحديث الجانب الاجتماعي والسياسي في شخصية الرسول (ص)هو حديث طويل قد لا تتسع له هذه الفرصة، إلا اننا سنحاول قدر الإمكان الإشارة إلى الملامح العامة من سلوكه الاجتماعي وبعض ملامح سلوكه وادائه السياسي والقيادي.

أما في الجانب الاجتماعي:

       فقد امتاز رسول الله (ص) بخلق إنساني رفيع وسلوك اجتماعي مميز مع الناس على اختلاف شرائحهم وانتماءاتهم مما جعله يمتلك عقول الناس وقلوبهم ويكسب محبتهم ويجذبهم إلى طريق الله.

       ونستعرض هنا نماذج من خلقه الاجتماعي وآداب معاشرته للناس. كما ورد في الحديث عن أهل البيت (ع) الذين هم اعرف الناس بسيرة النبي (ص) وشخصيته وسلوكه الفردي والاجتماعي.

       فقد امتازت شخصية رسول الله (ص) بالأخلاق الإنسانية السامية مع الجميع وحسن معاشرة الناس ومعاملتهم بالرفق واللين والرحمة، والقدرة على تحمل الآلام والمصاعب والأذى.

       فقد كان رسول الله (ص) طلق الوجه،دائم البشر يواجه الناس بالابتسامة، ويحسن لقاءهم ويعاملهم بالرفق واللين، ولم يكن يبدوا على وجهه العبوس، أو الحزن، أوالانقباض، بل كان بشوشا ويخفي أحزانه وآلامه.

       فقد روي عن الإمام الحسن(ع) عن ابيه علي (ع) قال: كان رسول الله (ص) دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب (من الصخب وهو شدة الصوت) ولا فحاشٍ، ولا عياب ولا مداح.

       وكان يخاطب قومه ويقول: يا بني عبد المطلب إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم فالقوهم بطلاقة الوجه وحسن البشر.

       وكان أمير المؤمنين (ع) إذا وصف رسول الله (ص) قال: كان اجود الناس كفا وأجرأ الناس صدرا وأصدق الناس لهجة وأوفاهم ذمة، وألينهم عريكة، واكرمهم عشرة، ومن رآه بدبهة (لأول مرة) هابه ومن خالطه فعرفة أحبه، لم أرَ مثله قبله ولا بعده.

       وكان شديد المداراة للناس وأرأف الناس بالناس، وخير الناس للناس، وانفع الناس للناس، حتى لقد روي أنه قال: (أمرني ربي بمداراة الناس كما امرني بالفرائض. وقال (ص): أعقل الناس اشدهم مداراة للناس وأذل الناس من اهان الناس.

       وكان (ص) يتفقد احوال الناس، ويسأل الناس عما في الناس، أي يسأل عن احوالهم، ليطلع على اوضاعهم، لقد روي أنه (ص) كان إذا فقد الرجل من اخوانه ثلاثة ايام سأل عنه، فإن كان غائبا دعا له، وإن كان شاهدا زاره، وإن كان مريضا عاده.

        ومن مصاديق رفقه بالآخرين ومعاملته لهم بالحسنى، ما رواه يونس الشيباني قال :قال ابو عبد الله الصادق (ع) : كيف مداعبة بعضكم بعضا؟ قلت: قليل. فقال (ع) فلا تفعلوا (اي تقللوا من المداعبة)، فإن المداعبة من حسن الخلق، وإنك لتدخل بها السرور على اخيك ، ولقد كان رسول الله يداعب الرجل يريد أن يسره أي أن يدخل السرور عليه.

       وعن علي(ع) قال: كان رسول الله (ص) ليسر الرجل من اصحابه إذا رآه مغموما بالمدعبة.

       وكان (ص) يفشي السلام بين الناس، فيسلم حتى على الصغيرمنهم، والمرأة، بل كان يبادر كل من لقيه بالسلام والمصافحة، فيسلم حتى  على الصغير منهم ويصافحه.

       وكان (ص) من سأله حاجة قضاها له إن قدر على ذلك، وإلا واجه صاحب الحاجة، بكلمة طيبة أو دعاء ٍ أو نصيحة أو توجيه.

وكان لا يأتيه أحد حُرّ أو عبد او أمة إلا قام في حاجته يسعى معه لقضائها.

وعن علي (ع): ما فاوضه أحد قط في حاجة أو حديث فانصرف حتى يكون الرجل هو الذي ينصرف، وما نازعه الحديث احد حتى يكون هو الذي يسكت.

وكان لا يذم احداً، ولا يعير أحدا، ولا يكلم احدا بشيء يكرهه، بل كان شديد الحياء حتى لقد ورد أنه (ص) كان إذا أراد لوم أحد أو عتابه يعاتبه بكل حياء وخجل.

أما صفة مجلسه (ص) فإن المستفاد من الروابات التي تحدثت عن ذلك وخاصة ما رواه الإمام الحسين (ع) عن ابيه الإمام علي (ع). إن مجلس رسول الله (ص) كان مجلس  حلم وعلم وحياء وصبر وأمانة، لا ترفع فيه الاصوات ولا ترتكب فيه المحرمات، ولا تهان فيه الحرمات، ولا تظهر فيه الهفوات، وجلسائه متواضعون متفاضلون بالتقوى، يوقرون في مجلسه الكبير، ويرحمون الصغير ويؤثرون ذا الحاجة ويحفظون الغريب.

وكان (ص) لا يجلس ولا يقوم إلا على ذكر الله عز وجل، ولا يتخذ لنفسه مكانا خاصا في المجلس، بل كان يجلس حيث ينتهي به المجلس، ويأمر اصحابه بذلك.

أما سيرته مع جلسائه فقد كان (ص) يعطي كلا من جلسائه نصيبه حتى لا يحسب جليسه أن احدا اكرم عليه منه، ومن جالسه صبر عليه حتى يكون هو المنصرف عنه، وقد وسع الناس بأخلاقه لرحابة صدره، فكان لهم أبا رحيما، وصاروا عنده في الحق سواء.

وفي سمو اخلاقه وادبه مع جلسائه أيضا ما أشار إليه الإمام الصادق (ع) في حديث له يقول: كان رسول الله (ص) يقسم لحظاته – أي نظراته بين اصحابه، فينظر إلى ذا وينظر إلى ذا بالسوية، ولم يبسط رجليه بين اصحابه قط، وإن كان ليصافحه الرجل فما يترك رسول الله يده من يده حتى يكون هو التارك، فلما فطنوا لذلك كان الرجل إذا صافحه مال بيده فنزعها من يده، وكان لا يدعوه أحد من اصحابه وغيرهم إلا قال: لبيك.

وعن الإمام الحسين (ع) نقلا عن ابيه امير المؤمنين (ع) انه قال: كان رسول الله (ص) إذا تكلم اطرق جلساؤه كأن على رؤوسهم الطير، فإذا سكت تكلموا، ولا يُنازعون عنده الحديث، متى تكلم انصتوا له حتى يفرغ، حديثهم عنده حديث اولهم، يضحك مما يضحكون ويتعجب مما يتعجبون منه، ويصبر للغريب على الجفوة -أي الإساءة- من منطقه ومسألته، حتى إن كان اصحابه ليستجلبونه ويقول: إذا رأيتم طالب حاجة يطلبها فأرفدوه -أي اعطوه حاجته- ولا يقبل الثناء إلا عن مكافئ- أي إلا ممن احسن إليه رسول الله- ولا يقطع على أحد حديثه، حتى يجوز فيقطعه بانتهاء أو قيام.

وحول مشاركته في الحديث الذي كان يدور في مجلسه، يقول زيد بن ثابت: كنا إذا جلسنا إليه إن اخذنا بحديث في ذكر الآخرة اخذ معنا، وإن اخذنا في ذكر الدنيا اخذ معنا وإذا اخذنا في ذكر الطعام والشراب اخذ معنا.

وقد كان رسول الله (ص) بقدر ما يحث على التزام فضيلة التواضع في التعامل والعلاقات الاجتماعية، فإنه من ناحية عملية كان المتواضع الأول في المسلمين، بل النموذج المثالي الرائع في التواضع وحسن التعامل مع الآخرين.

وعلى عظمته وعلو مقامه ومع احتلاله مركز قيادة الامة كان يبدو فردا عاديا من الناس، لم يحط نفسه بهالة خاصة ولا بزخرفة الملك، ولا بألقاب خاصة، فقد كان يجلس بين اصحابه كواحد منهم، فيأتي الغريب فلا يدري أيهم رسول الله (ص) حتى يسأل عنه، وكان قريبا من قلوب الناس، سهلا هينا، يلتقي بأبعد الناس وأقربهم: اصحابه واعدائه وأهل بيته والسفراء والوفود، بلا تصنع ولا تكلف، فكل شيء كان يصدر منه كان طبيعيا على سجيته.

ومن تواضعه (ص) أنه كان يسلم على الجميع على الكبير والصغير، وعلى الحر والعبد والخادم وكان ينصرف إلى محدثه بكله مصغيا إلى حديثه سواء كان محدثه صغيرا أو كبيرا ، إمرأة أو رجلاً.

ولم يكن النبي (ص) يستكبر عن القيام بأي عمل يقوم به اصحابه وجنده، فقد ساهم في بناء المسجد في المدينة، فكان ينقل الحجارة مع اصحابه، وعندما رأه اسيد بن خضير يحمل حجرا على بطنه قال: يا رسول الله اعطني احمله عنك، فأبى ذلك وقال (ص) له: إذهب واحمل غيره.

وفي ايام حفر الخندق في غزوة الأحزاب كان الرسول الأعظم (ص) يضرب أروع الأمثلة بمشاركة المسلمين همومهم وأعمالهم من دون أي تميز عليهم، كان معهم كواحد منهم، يعمل في حفر الخندق، على مكانته السامية وعلو مقامه، فهو رئيس الدولة، وخاتم النبيين والمرسلين واعظم مخلوق في هذا الوجود، إلا أن ذلك لم يمنعه من المشاركة بنفسه مع سائر المسلمين في حفر الخندق.

 فقد روى العلامة المجلسي رضوان الله عليه في كتاب البحار، عن البراء بن عازب قال: كان رسول الله (ص) ينقل معنا التراب يوم الاحزاب وقد وارى التراب بياض بطنه.

وكان أروع ما ضربه مثلا في التواضع والتعاون مع اصحابه أنه (ص) أمر بذبح شاة للطعام. فقال رجل: يا رسول الله عليّ ذبحها، وقال آخر: عليّ سلخها. وقال ثالث: عليّ طبخها، فقال رسول الله (ص): وعليّ جمع الحطب. فقالوا: يا رسول الله نحن نكفيك ذلك، أي نقوم به عنك، فقال (ص): قد علمت انكم تكفوني ولكن اكره ان اتميز عليكم، فإن الله يكره من عبده أن يراه متميزا بين اصحابه وقام فجمع الحطب.

وقد كان رسول الله (ص) في فضيلة الحلم عن المسيء نموذجا رائعا كسائر اخلاقه فهو لا يعرف الغضب، إلا حين تنتهك للحق حرمته، أما سوى ذلك فإنه كان ابعد الناس عن الغضب والانفغال، فهو احلم إنسان عمن اساء إليه بكلمة أو تصرف خاطئ أو سلوك مشين.

وحلم رسول الله (ص) وعفوه لا تتكتشف عظمتهما إلا إذا تذكرنا أن النبي (ص) إنما يعفو مع قدرته على معاقبة المسيء، فهو في وضع يمكنه من ان يقتص من كل من يسيئ إليه، إذ هو رئيس الدولة، وهو المطاع في قومه وبين اصحابه إلى حد لا يوصف، ولو أنه أمر بقتل أو معاقبة شخص لبادر إليه المئات منهم، ولكن رسول الله (ص) كان حليما في كل المواقف والأحوال إلا موقفا ينتهك فيه الحق.

ولعظمة المصطفى (ص) في حلمه وعفوه عمن اساء إليه تراه وكأنه الحلم قد تجسد بشرا سوياّ.

قال انس بن مالك: خدمت رسول الله (ص) سنين فما سبني سبة قط ولا ضربني ضربة، ولا انتهرني ولا عبس في وجهي، ولا امرني بأمر فتوانيت فيه فعاتبني عليه، فإن عاتبني عليه احد من اهله، قال دعوه، فلو قُدر شيء كان.

وروي: ان  النبي (ص) ما ضرب إمرأة قط، ولا ضرب خادما قط، ولا ضرب بيده شيئا قط. إلا أن تجاهد في سبيل الله عز وجل، ولا نيل منه فانتقم من صاحبه، إلا أن تنتهك محارمه فينتقم.

وكما كان (ص) في صفة الحلم، فقد كان في صفة العفو ايضاً.

فعن الإمام الباقر (ع) قال: إن تمامة بن أثال أسرته خيل النبي (ص) وقد كان رسول الله (ص) قد قال: اللهم أمكني تمامة، فقال له رسول الله (ص): إني مخيرك واحدة من ثلاث: أقتلك؟ قال: إذاً تقتل عظيما، أو أفاديك؟ قال: إذاً تجدني غاليا، أو امن عليك أي اعفو عنك؟ قال: إذاً تجدني شاكرا . فقال (ص) فإني قد مننت عيك، فقال تمامة: فإني اشهد أن لا إلله إلا الله وأنك رسول الله. وقد والله علمت أنك رسول الله حيث رأيتك، وما كنت لأشهد بها وأنا في الوثاق.

ومن عظيم عفوه ما تجلى يوم فتح مكة، فبرغم القسوة والوحشية اللتين عومل بهما جسد عمه الحمزة بن عبد المطلب في معركة أحدـ لم يلجأ إلى الانتقام من وحشي قاتل حمزة ولا من هند زوجة ابي سفيان التي مثلت في جسده، مع انهما كانا في قبضته، وكان يستطيع معاقبتهما والاقتصاص منهما.

كما أنه (ص) عفا عن اهل مكة يوم الفتح ووقف منهم موقفا رحيما على الرغم من كل العذاب والإرهاب والمعاناة والآلام وأنواع الأذى الذي صبته قريش عليه وعلى المسلمين في مكة قبل الهجرة وبعدها، وعلى الرغم من مؤامراتها وحروبها وإرهابها، فإنه (ص) وقف على باب الكعية يوم الفتح مخاطبا اهل مكة: ما ترون أني فاعل بكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم وابن اخ كريم.

قال: فإني اقول لكم كما قال أخي يوسف: لا تثريب عليكم اليوم، يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين، إذهبوا فأنتم الطلقاء.

وعندما قال أحد اصحابه: اليوم يوم الملحمة اليوم تسبى الحرمة. قال (ص) اليوم يوم المرحمة، اليوم تراعى الحرمة.

بهذه النفس الرحيمة، وبهذا الخلق الإسلامي الرفيع والسلوك الإنساني الحضاري الذي لم يعرف التاريخ له نظيرا، يعامل رسول الله (ص) اشد الناس عداوة له، بعد أن تمكن منهم ومن رقابهم.

وهكذا كانت سيرة رسول الله (ص) مع اصحابه ومجتمعه وامته، لقد كان يتعامل مع جميع الناس بعاطفة أبوية تتفجر حبا وعطفا وحنانا ورحمة مع كونه يحتل مركزا قياديا في الأمة. هذا كله في الجانب الاجتماعي.

أما في الجانب السياسي:

فكما كان رسول الله (ص) عظيما في اخلاقه الشخصية والاجتماعية فقد كان عظيما في خلقه السياسي كقائد ورجل دولة.

ونذكر هنا بعض ملامح سلوكه القيادي وأخلاقه السياسية في النقاط التالية:

النقطة الأولى: العدل والتدبير: فقد كان (ص) عادلا حكيما مدبرا، وقد روى الشيخ الكليني في كتاب الكافي الشريف عن الإمام الصادق (ع) أنه قال: كان رسول الله (ص) يقسم صدقة أهل البوادي في أهل البوادي ، وصدقة أهل الحضر في أهل الحضر.

واستطاع بحكمته وتدبيره الحد من العداوات والاحقاد والبغضاء والحروب التي كانت سائدة بين القبائل والجماعات السياسية العربية.

النقطة الثانية: هي حماية القوانين والحرص على تطبيق التشريع وإجراء الحدود الإلهية: فقد كان (ص) حريصا على حفظ النظام العام ورعاية التشريعات الإلهية وحمايتها، وعدم مخالفتها، ولم يجامل احدا فيما يعني تطبيق الشريعة وإنزال العقوبة بالمذنب كائنا من كان.

ففي فتح مكة ارتكبت إمرأة من بني مخزوم جريمة السرقة، وثبتت السرقة عليها من الناحية القضائية، لكن قومها الذين كانت الترسبات القبلية والجاهلية لا تزال تعشعش في عقولهم، رأوا أن إنزال العقاب بها يخدش مكانتهم وموقعهم الاجتماعي ويلحق العار بشرفهم، فبذلوا جهدهم وتوسطوا لعلهم يستطيعون رفع العقاب عنها، فأرسلوا اسامة بن زيد الذي كان موضع احترام وتقدير عند النبي (ص)  مثل ابيه وسيطا يتشفع لها عند النبي (ص)، فغضب النبي (ص) وقال له: ما هذا محل شفاعة، وأصدر أمره (ص) بإنزال العقوبة بها وإجراء حدود الله عليها.

ولكي يزيل من اذهان الناس فكرة المحاباة في تطبيق التشريع وإقامة حدود الله، خطب (ص) في الناس في ذلك اليوم مشيرا إلى هذه الحادثة فقال (ص): إنما هلك من كان قبلكم بمثل هذا. كانوا يقيمون الحدود على ضعفائهم، ويتركون اقويائهم واشرافهم فهلكوا. أي أن الأممم السابقة قد هلكت وبادت لأنها كانت تقيم الحد على الضعيف وتترك الشريف حتى لو سرق أو ارتكب جرما يستحق العقاب.

ولم يكن النبي (ص) يرى نفسه أنه فوق التشريع أو القانون بل إنه التزم وطبق بدقة ما الزم به الجميع، فقد اعطى القود من نفسه، وعرض القصاص منها. مسجلا بذلك نقطة ناصعة بيضاء لم يشهد التاريخ مثيلا لها.

فقد روي أن النبي (ص) كان يعدل صفوف اصحابه يوم بدر وبيده قِدح (أي سهم) يعدل به القوم، فمر سواد بن غزيمة وهو متقدم من الصف، فطعنه النبي (ص) في بطنه وقال له: إستو يا سواد.

فقال: يا رسول الله اوجعتني، وقد بعثك الله بالحق والعدل فاقدني من نفسك، فكشف رسول الله (ص) عن بطنه ليقتص الرجل منه وقال: إستقد فاعتنقه سواد وقبل بطنه فقال (ص): ما حملك على هذا يا سواد فقال: حضر ما ترى (أي من الحرب) فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك، فدعا له رسول الله (ص) بخير.

النقطة الثالثة: الالتزام بالعهود والمواثيق: فلم يحدث إطلاقا أن اخلَّ النبي (ص) بعهوده التي ابرمها مع اعدائه، وقد اخلت قريش بعهدها معه، وأخل اليهود بعهودهم ومواثيقهم ولكنه لم يخل أبدا بعهده مع أحد.

النقطة الرابعة: الالتزام بمبدأ احترام الآخرين، وهو المبدأ الاخلاقي الذي اتبعه النبي (ص) مع زعماء دول العالم الذين لم يكونوا على دينه، ففي الرسائل التي بعث بها الرسول الأعظم (ص) إلى زعماء العالم إنذاك نجد أنه (ص) برغم تصلبه وتشدده في ذات الله، قد طبق مبدأ الاحترام مع هؤلاء، وذلك عندما خاطب كسرى بعظيم فارس وقيصر بعظيم الروم، وذلك من أجل أن يكشف لهم أن الإسلام هو الدين الذي جمع كل المبادئ السامية والقيم الإنسانية والأخلاقية.

النقطة الخامسة: بعد النظر الذي كان يمتلكه النبي (ص). فالدارس لسيرة النبي (ص) يرى أن الله تعالى اعطاه من بعد النظر ما لم يعط غيره، لقد رأينا بعد نظره يوم وضعت قريش الشروط لصلح الحديبية، فقد رأى بعض اصحابه في هذه الشروط إجحافا بحق المسلمين، ورأى فيها رسول اله (ص) بما اتاه الله من بعد النظر النصر للمسلمين ورأى قريشا بوضعها هذه الشروط إنما تحفر قبرها بيدها، وتكتب دمار اطروحتها بقلمها.

ورأينا بعد نظره (ص) أيضا في تآلفه وتسامحه مع عبد الله بن ابي زعيم المنافقين عندما حاول مساعدة بني قينقاع وبني النضير وعندما حاول إثارة الفتنة بين المهاجرين والأنصار في غزوة بني المصطلق. حيث لم يقبل عرضا بقتله كان قد عرضه بعض اصحابه، وبقي رسول الله (ص) يتآلفه حتى انكشف نفاق عبد الله بن أبي لكل أحد، وظهرت عداوته للإسلام والمسلمين، فكان قومه بعد ذلك إذا اساء الإساءة كانوا هم الذين يعاقبونه ويعنفونه، وعندها قال رسول الله (ص) لعمر بن الخطاب: كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله، لارتعدت له انف لو امرتها اليوم بقتله لقتلته، فقال عمر: قد والله علمت أن أمر رسول الله أعظم بركة من امري.

النقطة السادسة: إن النبي (ص) كان يقدم أهل بيته واقرباءه في الحروب إلى ساحة القتال قبل أن يقدم اصحابه الآخرين. ففي معركة بدر قدم حمزة وعليا وعبيدة بن الحارث للمبارزة وأمرهم بالخروج إلى ساحة القتال وهم جميعهم من اهل بيته واقربائه، وقد ارجع ثلاثة من اصحابه من الانصار كانوا قد برزوا للقتال قبلهم.

    وقد روي عن علي (ع) في حديث له عن سيرة النبي (ص) في الحرب أنه قال: كان إذا حضر البأس، ودعيت نزال (أي تنازلوا للحرب) قدم – يعني النبي (ص)- أهل بيته فوقى بهم اصحابه، فقتل عبيدة يوم بدر، وحمزة يوم أحد، وجعفر يوم مؤتة ...

ومن المعلوم أن النبي (ص) حين يبدأ الحرب فإنه يكون بذلك قد اثبت بالفعل لا بالقول فقط لكل اصحابه: أنه ليس فقط لا يريد أن يجعلهم وسيلة للوصول إلى اهدافه، ويدفع بهم الخطر عن نفسه واقربائه، وإنما ثمة هدف اسمى لا بد من أن يساهم الجميع في العمل من أجله وفي سبيله، وهو شريك لهم في كل شيء في السراء والضراء والشدة والرخاء، وهو يضحي ويقدم في سبيل تلك الأهداف قبل أن يطلب ذلك من غيره ، بل حاول أن يدفع عن غيره ولو بأهل بيته ما استطاع إلى ذلك سبيلا. ذلك هو ما يجب أن يكون المثل الأعلى لكل صاحب هدف وقضية، ولكل قائد وسياسي، فإن عليه أن يقدم هو أولا التضحيات فإذا احتاج إلى مساعدة  غيره، فإن طلبه منهم يكون له مبرراته، ويراه كل احد أنه صادق ومحق في طلبه ذاك. وليس له أبدا ان يجلس في برجه العاجي، ثم يصدر أوامره للآخرين، من دون أن يرى نفسه مسؤولا عن التحرك في اتجاه الهدف إلا في حدود الكلمة والموقف وإصدار الأوامر، فإن الكلام لن يكون كافيا في تحقيق الأثر المطلوب في التحرك نحو الهدف، مهما كان ذلك الهدف مقدسا وسامياً.

 وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.