بنو اسرائيل والافساد في الارض (23)

العباد والمجاهدين سوف يدخلون المسجد الاقصى في القدس مرتين ،وان دخولهم هذا سوف يكون على نحو واحد في المرتين معاً اي بالجهاد والقوة والقهر والغلبة (كما دخلوه اول مرة ) وليس بالتسويات المذلة ،ولا باتفافيات ومعاهدات السلام الوهمية التي قد ترفع الاحتلال ظاهراً ولكنها تبقي عليه حقيقة وواقعاً .

 

بسم الله الرحمن الرحيم

يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الاسراء : وقضينا الى بني اسرائيل في الكتاب  لتفسدن في الارض مرتين ولتعلن علواً كبيراً ،فإذا جاء وعد أولهما بعثنا عليكم عباداً لنا اولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولا،ثم رددنا لكم الكرة عليهم وامددناكم باموال وبنين وجعلناكم اكثر نفيراً،ان احسنتم احسنتم لأنفسكم وان اسأتم فلها فإذا جاء وعد الاخرة

ليسُئوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه اول مرة وليتبروا ما علو ا تتبيراً،عسى ربكم ان يرحمكم وان عدتم عدنا وجعلنا جهنم للكافرين حصيراً ) 4/8.

المعنى الاجمالي لهذه الايات ان الله سبحانه وتعالى اخبر واعلم بني اسرائيل في الكتاب الذي انزله على نبيهم وهو التوراة انهم سيرتكبون فسادين اجتماعيين كبيريين يقود كل منهما الى الطغيان والعدوان والاحتلال والاستكبار في الارض، وان الله سينتقم منهم في الدنيا قبل الاخرة فيسلط  عليهم بعد كل افساد واحتلال رجالا اشداء اولى بأس شديد يذلونهم بالقتل والاسر ويذيقونهم جزاء فسادهم واستكبارهم ويجبرونهم على دفع ثمن اعتداءاتهم واحتلالهم للارض والمقدسات غالياً،وفي التفاصيل فان الايات تشير الى اربعة احداث هامة ترتبط ببني اسرائيل وافسادهم في الارض المقدسة وفي فلسطين :

الحدث الاول:  ان بني اسرائيل سوف يفسدون في الارض ويعلون علوا كبيرا وهذا هو الافساد الاول لبني اسرائيل التي اشارت اليه الايات بقوله تعالى : ( لتفسدن في الارض مرتين ولتعلن علوا كبيراً ) وطبعا ليس المقصود بافسادهم هنا الافساد بمعناه العام الذي يشمل الكفر والكذب واكل الربا وتدبير المؤامرات واشعال نار الحرب ونحو ذلك ،فان هذه الامور هي ديدن بني اسرائيل ودينهم وجزء من حركتهم وعقليتهم في كل عصر وفي كل جيل ، وقد قال الله تعالى فيما قال عنهم : (وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت ايديهم ولعنوا بما قالوا .. الى ان يقول  : كلما اوقدوا نارا للحرب اطفئها الله ويسعون في الارض فسادا الله لا يحب المفسدين )  الماءدة 64.

اذا ليس المقصود بافسادهم الافساد العام هذا ،وانما المقصود الافساد الخاص وهو الحكم والسيطرة والاحتلال لاراضي الاخرين ومقدساتهم ،فحكمهم واحتلالهم هو الافساد بالذات بدليل قوله تعالى (ولتعلن علوا كبيرا ) اذن معنى قوله تعالى ( لتفسدن في الارض مرتين ولتعلن علوا كبيرا ) انكم يا بني اسرائيل ستحكمون مرتين وتتخذون الحكم وسيلة للفساد الكبير الذي لا يقاس به اي فساد ،فتستبيحون المقدسات ،وتنتهكون الحرمات ،وتتستهينون بالقيم والاخلاق ،وبكل حق من حقوق الله  والانسان .

والحدث الثاني الذي تشير اليه الايات : هو أن عبادا لله مجاهدين أولى بأس شديد سوف يحاربون بني اسرائيل بعد فسادهم وارهابهم واحتلالهم ،فينتصرون عليهم ،ويطأون بلادهم ويلاحقونهم في ديارهم جزاء على بغيهم وارهابهم ،ويدخلون المسجد الاقصى في القدس فاتحين ، وقد اشار الله الى ذلك بقوله : (فاذا جاء وعد اولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا اولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعدا مفعولا ) والجوس خلال الديار يعني وطئها والتردد فيها بغية ملاحقة من فيها .

 والحدث الثالث : من الاحداث التي اشارت اليها الايات  هو : ان بني اسرائيل بعد ان يعيشوا مرارة الهزيمة والذل على ايدي المجاهدين الاشداء في المرة الاولى ستعود الكرة والغلبة لهم على اعدائهم ، فبعد مدة زمنية طويلة نسبيا من محنتهم الاولى تكثر اموالهم واولادهم ،فيجهزون جيشا كبيرا يكون اعظم من جيش اولئك العباد الاشداء ،وعندما تقع  المواجهة بين الطرفين من جديد يستطيع اليهود ان يتغلبوا على اعدائهم وتكون الكرة لهم في هذه المرة ،فيعودون من جديد الى الطغيان والافساد،ويعودون من جديد الى احتلال الارض والمقدسات ،وهذا هو الافساد الثاني الذي اشار اليه تعالى بقوله : (ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم باموال وبنين وجعلناكم اكثر نفيرا).

الحدث الرابع : هو انه بعد أن يعود بنو اسرائيل الى الافساد والاحتلال من جديد يعود اولئك العباد الاشداء الى قتالهم ومقاومتهم ،وبفعل تضحياتهم وارادتهم وعزمهم على مقاومة فساد بني اسرائيل يستطيع هؤلاء المجاهدون ان يحققوا نصراً اكيداً على اليهود فيفتكون بهم ويذلونهم بالقتل والاسر والتشريد والتدمير ويدخلون من جديد بالقوة الى المسجد الاقصى في القدس كما دخلوه في المرة الاولى ،وهذا ما اشار اليه تعالى بقوله : ( فاذا جاء وعد الاخرة "اي موعد الافساد الثاني " ليسوؤا وجوهكم " اي يبعث الله عليكم من يذلكم بحيث تظهر اثار الذل والمحنة على وجوهكم حزناً وكأبة " وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيرا) .

والذي يبدو من التدقيق في جملة (وليتبروا ما علوا تتبيرا ) هو ان المجاهدين في هذه المرة اي المرة الثانية يذيقون بني اسرائيل اشد الوان الهلاك والدمار والعذاب ،فهذه المرة تكون أشد على اليهود من الكرة الاولى لآن التتبير يعني الاهلاك والتدمير والابادة شبه الكاملة .

هذا هو حصيلة ما تضمنته الايات بالنسبة الى الاحداث الهامة التي تقع بين اليهود وبين من يسخرهم الله لمعاقبتهم على افسادهم واستكبارهم واحتلالهم للقدس والاراضي الاسلامية  المقدسة .

والتدقيق في  عبارات الايات يجعلنا نستوحي منها عدة امور ترتبط بالاحداث التي ذكرناها :

الامر الاول : ان حصول الافساد الاول والثاني من بني اسرائيل ،ثم الانتقام منهم على أيد رجال اشداء أولي بأس شديد ،هو امر حتمي لا خلف فيه ولا مرد له ،فهو واقع حتماً وجزماً عاجلاً ام أجلاً ، وهذا ما نستفيده من كثرة المؤكدات الواردة في بعض كلمات وجمل الايات ،فلاحظ قوله تعالى مثلاُ (وقضينا ) الذي يشير الى حتمية صدور الافساد من بني اسرائيل لكن لا على سبيل الجبر والاكراه،وإنما على سبيل الاخبار بما هو حتمي الوقوع بحسب ما يعلمه الله من احوالهم واوضاعهم وعقليتهم ، ثم اتى بلام الابتداء ونون التوكيد في اكثر من مورد فقال تعالى : (لتفسدن ،ولتعلن ) يؤكد حصول الافساد والاستكبار من بني اسرائيل .ثم قال تعالى (إذا جاء وعد الآخرة) ولم يقل :وقت او موعد ليؤكد ايضاً حصول ذلك منهم لان الوعد يقتضي الوقوع والتحقق جزماً لانه لا خلف للوعد،ثم الحق ذلك بكلمة ( بعثنا ) ولم يقل : سنبعث ليشير بذلك الى ان مواجهة ومقاومة فساد بني اسرائيل واحتلالهم للارض والمقدسات امر حاصل لا محالة ،فهو يخبر عن وقوعه وحصوله كأنه واقع حاصل ، ثم عاد وأكد وقوع وحصول ذلك كله بقوله نعالى (وكان وعداً مفعولا) اي لا مناص منه ولا محيص عنه .

الامر الثاني : ان المستفاد من الايات هو : ان من سوف تجري لهم مع بني اسرائيل هذه الاحداث هم جماعة واحدة ،فالذين يواجهون اليهود في المرة الثانية بعد افسادهم الثاني هم من نفس الفئة والجماعة  الذين يواجهون اليهود في المرة الاولى بعد افسادهم الاول، وذلك لان الضمائر في كلمة (جاسوا –عليهم –وليسوؤا – وليدخلوا- ودخلوه-وليتبروا) الواردة في الايات كل هذه الضمائر ترجع الى جماعة واحدة عبرعنها بقوله تعالى : (عباداً لنا ) فانه ليس في الايات ما يصلح مرجعاً لهذه الضمائر غير جملة (عباداً لنا ).

الامر الثالث :ان المقصود  ب :( عباداً لنا ) الذين سيواجهون اليهود وفسادهم واحتلالهم ،هم قوم مؤمنون مجاهدون ،لان ذلك هو الظاهر من قوله تعالى : (بعثنا ) وقوله (عبادا لنا ) لان البعث من قبل الله والعباد له لم يستعملا في القران الا في مقام المدح والثناء الا ما شذ وندر.

وعلى هذا الاساس فان المؤمنين هم من سيقفون في مواجهة طغيان اليهود واستكبارهم واحتلالهم ،وسيدفعهم ايمانهم والتكليف الشرعي الالهي الى القيام بذلك العمل الجهادي المقاوم ، وبذلك يصح ان يقال كما في الاية (بعثنا عليكم ) لان اوامر الله هي التي دفعتهم وحركتهم للقيام بمقاومة اليهود ،فالله هو المحرك والباعث لهم للقيام  بذلك .

الامر الرابع : انه يستفاد من هذه الايات ايضاً : ان هؤلاء العباد والمجاهدين سوف يدخلون المسجد الاقصى في القدس مرتين ،وان دخولهم هذا سوف يكون على نحو واحد في المرتين معاً اي بالجهاد والقوة والقهر والغلبة (كما دخلوه اول مرة ) وليس بالتسويات المذلة ،ولا باتفافيات ومعاهدات السلام الوهمية التي قد ترفع الاحتلال ظاهراً ولكنها تبقي عليه حقيقة وواقعاً .

واذا كان تحرير الارض والمقدسات ودخول القدس الشريف لا يكون الا بالفعل الجهادي المقاوم وبقوة السلاح  وبالإرادة القوية والعزيمة الراسخة فهذا يتطلب منا جميعاً وفي يوم القدس العالمي استعداداً فعلياً وعملياً وعلى جميع المستويات لمواجهة هذا الاستحقاق الجهادي الكبير .

وآخر دعوانا ان الحمد الله رب العالمين .