ليلة القدر خصائص واحداث (22)

في هذه الليلة تعين مقدرات الناس لسنة كاملة من حياة وموت ورزق وسعادة وشقاء وما الى ذلك ،وهذا ما يدل عليه قوله تعالى  في سورة الدخان  في وصف هذه الليلة (فيها يفرق كل امر حكيم ) ففي هذه الليلة يقدر كل الامور والمسائل المصيرية المرتبطة بالانسان والحياة والكون ، والتعبير بالحكيم انما هو لبيان ااستحكام هذا التقدير وعدم تغيره وكونه حكيماً .

 

بسم الله الرحمن الرحيم

يقول الله سبحانه وتعالى في سورة القدر : بسم الله الرحمن الرحيم ،إنا انزلناه في ليلة القدر ،وما أدراك ما ليلة القدر ،ليلة القدر خير من الف شهر ،تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر ،سلام هي حتى مطلع الفجر .

السورة المباركة كما ذكرنا تشير الى عدة حقائق ،ترتبط بليلة القدر وخصائصها  وما حدث فيها في الماضي في زمن النبي (ص) وما يحدث فيها باستمرار في كل سنة والى ان يرث الله الارض ومن عليها .

ونحن نتحدث هنا حول ما أشار ت اليه السورة من حقائق في عدة نقاط:

النقطة الاولى : ان المستفاد من قوله تعالى : (شهر رمضان الذي انزل فيه القران ) في الاية 185 .من سورة البقرة ،ان القران نزل كله في شهر رمضان ،والاية الاولى من سورة القدر تقول : (انا انزلناه في ليلة القدر ) واسم القران وان لم يذكر صريحاً في هذه الاية الا ان الضمير في (انزلناه ) يعود الى القران قطعاً فتكون الاية دالة على نزول القران في ليلة القدر ،وجمع هذه الاية مع تلك الاية ينتج ان القران الكريم نزل كله في شهر رمضان وفي ليلة القدر بالذات .

وهذه النتيجة تقودنا الى طرح هذا السؤال : وهو انه من المؤكد تاريخياً ان القران الكريم نزل تدريجياً على رسول الله على مدى ثلاث وعشرين سنة هي مدة الدعوة فكيف نوفق بين هذا النزول التدريجي وبين ما جاء في الايات من ان القران نزل في شهر رمضان وفي ليلة القدر بالذات؟؟

اجاب البعض عن ذلك : بان ابتداء نزول القران كان في ليلة القدر وان معنى قوله (انزلناه) اي ابتدأنا بانزاله والمقصود أنزال بعضه وليس كله، فابتدأ نزوله كان في ليلة القدر واستمر تدريجياً على مدى ثلاث وعشرين سنة الى ان اكتمل نزوله، وعلى هذا فلا اشكال ولا تنافي بين الايات وبين نزول القران تدريجياً .

ولكن هذا الجواب  غير دقيق وذلك لأمرين:

اولاً : لان ظاهر قوله تعالى: (انا انزلناه في ليلة القدر) هو نزول القران كله في ليلة القدر وليس ابتداء نزوله او نزول بعضه  لان الضمير في انا انزلناه راجع الى كل القران وليس الى بعضه.

وثانياً : ان القول بان ابتداء نزول القران كان في ليلة القدر خلاف ما هو الثابت في الروايات  الصحيحة من ان ابتداء نزول القران كان عندما بعث النبي (ص)بالرسالة في السابع والعشرين من شهر رجب  وليس في شهر رمضان حيث انه (ص) بعث بالقران واول ما نزل عليه هو قوله تعالى في سورة العلق: إقرأ باسم ربك الذي خلق الخ ....الايات.

وعليه: فالصحيح  في الجواب عن السؤال المتقدم هو ان نقول : ان القران نزل مرتين : مرة دفعة واحدة وجملة واحدة  في ليلة القدر وهذا هو المقصود في قوله تعالى : (شهر رمضان الذي انزل فيه القران ) وبقوله تعالى ( انا انزلناه في ليلة القدر ) فان المقصود من انزال القران في هذه الايات هو النزول الدفعي على قلب النبي(ص) حيث نزل دفعة واحدة في ليلة القدر ولم يكن النبي في هذه المرة مكلفاً بتبليغه للناس .ومرة نزل بشكل تدريجي وعلى مدى ثلاث وعشرين سنة وكان ابتداء نزوله في السابع والعشرين من رجب وهو وقت بعثة النبي ، واستمر بالنزول التدريجي الى ان توفي رسول الله ، وفي هذه المرة كان النبي مأموراً بتبليغه للناس .وعلى هذا الاساس لا يكون هناك اي تناف بين الايات وبين ما هو ثابت تاريخياً من نزول القران تدريجياً .

النقطة الثانية : ان الله سمى هذه الليلة بليلة القدر اي الليلة التي يقدر ويعين الله فيها امور وحوادث السنة القادمة ،ففي هذه الليلة تعين مقدرات الناس لسنة كاملة من حياة وموت ورزق وسعادة وشقاء وما الى ذلك ،وهذا ما يدل عليه قوله تعالى  في سورة الدخان  في وصف هذه الليلة (فيها يفرق كل امر حكيم ) ففي هذه الليلة يقدر كل الامور والمسائل المصيرية المرتبطة بالانسان والحياة والكون ، والتعبير بالحكيم انما هو لبيان ااستحكام هذا التقدير وعدم تغيره وكونه حكيماً .

ان هذا المعنى لليلة القدر ينسجم مع الروايات الكثيرة التي تقول ان كل شيء من خير وشر وطاعة ومعصية وولادات وآجال وارزاق واعمار تقدر في هذه الليلة ، فيقدر لكل فرد من الناس ما يليق له وحسب درجة ايمانه وتقواه وطهارته واعماله الحسنة ،وبذلك فان ارضية التقدير يوفرها الانسان نفسه بحسب درجة إيمانه والتزامه.

النقطة الثالثة : ان قوله تعالى : (وما ادراك ما ليلة القدر ) كناية عن عظمة هذه الليلة وجلالة قدرها وعلو منزلتها وقوله تعالى في الاية الثالثة: (ليلة القدر خير من الف شهر ) انما هو بيان وتوضيح اجمالي لعظمة وقيمة هذه الليلة ،فان الف شهر تعني اكثر من ثمانين سنة فاي ليلة اعظم من هذه الليلة التي تساوي قيمتها عمراً طويلاً مباركاً بهذا الحجم ،والمقصود بكونها خيراً من الف  شهر انها خير من الف شهر من حيث فضل العبادة فيها ، فاحيائها للعبادة والاقبال  على الله خير من عبادة الف شهر،والاعمال الصالحة فيها خير من الاعمال الصالحة في الف شهر ،ويؤيد هذا المعنى الروايات الكثيرة الواردة في شأن فضيلة ليلة القدر وفضل العبادة فيها .

أضف الى ذلك ان نزول القران في هذه الليلة ونزول البركات والالطاف والرحمات الالهية فيها وكونها مباركة ومنبعاً للخير والاحسان والعطاء كل ذلك يجعلها خيراً من الف شهر .

النقطة الرابعة : انه في ليلة  القدر تتنزل الملائكة والروح ،والروح هو مخلوق عظيم يفوق الملائكة ،تتنزل الملائكة والروح بإذن ربهم من اجل تدبير كل امر من الامور وتعين وتقدير كل خير وبركة ورزق وحياة وموت وغير ذلك مما سيقع في السنة القادمة ،فالهدف من نزول الملائكة والروح في هذه الليلة هو لتقدير وتعيين هذه الامور والحوادث الكونية التي ستقع في السنة القادمة . وهذا ما اشار اليه قوله تعالى في الاية الرابعة من هذه السورة: ( تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل امر ) فان كلمة ( تنزل ) بمعنى تتنزل وجملة ( من كل امر ) يعني لاجل تدبير كل امر من الامور المتعلقة بالحياة والكون .

النقطة الخامسة : ان الاية الاخيرة من السورة وهي قوله تعالى : ( سلام هي حتى مطلع الفجر ) تصف هذه الليلة بانها ليلة مفعمة بالسلام والأمن حتى الصباح ،فهي سلام كلها لا شر ولا كيد ولا حرمان فيها ، بل هي مملؤة بالنور والرحمة والخير والبركة والسلامة والسعادة من كل الجهات ،فالقران نزل فيها ،وعبادتها خير من عبادة الف شهر ، وفيها تتنزل الخيرات والبركات ، وبها يحظى العباد برحمة خاصة ، كما ان الملائكة تتنزل فيها ،فهي اذاً ليلة مفعمة بالسلامة والرحمة من بدايتها وحتى مطلع الفجر .

واذا كانت هذه الليلة ليلة السلام والرحمة التي تشمل العباد ، واذا كانت هذه الليلة تقدر فيها امور الناس حسب ما يليق بكل فرد منهم وحسب قابلية واستعداد كل فرد منهم فانه ينبغي على الانسان في هذه الليلة ان يكون مستيقظاً ومتوجهاً الى الله وفي حالة تقرب الى الله وتكامل على طريق بناء الشخصية الاسلامية ليرفع من مستوى لياقته واستعداده لمزيد من رحمة الله الواسعة .

وآخر دعوانا ان الحمد الله رب العالمين