نزول القرآن في شهر رمضان (7)

عن الإمام الصادق (ع) انه قال : نزلت التوراة في ست مضين من شهر رمضان، ونزل الانجيل في اثنتي عشرة مضت من شهر رمضان، ونزل الزبور في ثماني عشرة من شهر رمضان ،ونزل الفرقان في ليلة القدر .

بسم الله الرحمن الرحيم

(شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان )

يذكر بعض المفسرين ان قوله تعالى في هذه الآية (شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن )هو بيان للأيام المعدودات في الايات السابقة (كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون اياماً معدودات) فالمراد بالايام المعدودات التي كتب عليكم صيامها هي شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن.

وشهر رمضان هو الشهر التاسع من شهور السنة القمرية الهجرية ،ولم يذكر اسم شهر من الشهور في القرآن الا اسم شهر رمضان .

وهنا قد يتسأل الكثيرون من الناس : لماذا اختار الله شهر رمضان شهراً للصوم من بين سائر شهور السنة ؟

 والجواب : إنما اختير هذا الشهر شهراً للصيام لانه يمتاز عن بقية الشهور بعدة امور:

اولاً : بنزول القران فيه ،فقد تشرف هذا الشهر العظيم ،واحتل هذه المكانة المرموقة لنزول القرآن فيه وهذا ما اشارت اليه الاية (شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن ).

ثانياً :بنزول الكتب السماوية فيه،فان كل الكتب السماوية من صحف ابراهيم والتوراة والزبور والانجيلوالقران نزلت في هذا الشهر كما جاء في الروايات الاسلامية.

فقد ورد عن الإمام الصادق (ع) انه قال : نزلت التوراة في ست مضين من شهر رمضان، ونزل الانجيل في اثنتي عشرة مضت من شهر رمضان، ونزل الزبور في ثماني عشرة من شهر رمضان ،ونزل الفرقان في ليلة القدر .

وثالثاً :ان في هذا الشهر تقدر فيه جميع امور العباد ،وتقسم فيه الارزاق كما قال تعالى : "فيها يفرق كل امر حكيم " كما ان  فيه القضاء المبرم الذي لا يرد ولا يبدل.

بالاضافة الى ان هذا الشهر هو افضل الشهور على الاطلاق كما ورد في خطبة رسول الله (ص) في اخر جمعة من شعبان حيث قال في بيان فضل هذا الشهر العظيم : " أيها الناس إنه قد اقبل اليكم شهر الله بالبركة والرحمة والمغفرة ،شهر هو عند الله افضل الشهور وايامه افضل الايام ولياليه افضل الليالي وساعاته افضل الساعات.

 ولاجل ذلك كله فقد اختصه الله بالصيام من بين سائر الشهور.

ومهما يكن فان الاية التي نحن بصدد تفسيرها ،تدل بوضوح على ان القران الكريم أنزل على رسول الله (ص) في شهر رمضان الا انها لم تعين في اي وقت نزل فيه حيث تقول : شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن هدى للناس ، فلم تعين اليوم الذي نزل القرآن فيه من هذا الشهر ولا الليلة ، ولكن ورد في اية اخرى انه نزل في ليلة مباركة ،قال تعالى في سورة الدخان : " إنا انزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين " الاية 3.  وفي اية اخرى ذكر الله انه نزل في ليلة القدر حيث قال تعالى في سورة القدر : "إنا انزلناه في ليلة القدر ".

فهذه الآيات جميعها تدل على ان القرآن أنزل في ليلة القدر التي هي ليلة مباركة في شهر رمضان.

وهنا قد نتسأل : كيف يكون نزول القرآن على رسول الله في شهر رمضان كما هو صريح هذه الآية مع ان المعروف ان النبي (ص) قد بعث بالقرآن ،وان البعثة انما كانت في اليوم السابع والعشرين من شهر رجب وليس في شهر رمضان وان اول ما انزل عليه اقرء باسم ربك الذي خلق، فكيف يمكن الانسجام والتوفيق بين هذه الآية وبين ذلك ؟؟

وقد يطرح السؤال او الاشكال بنحو اخر وهو ان الايات المتقدمة تدل على نزول القران في شهر رمضان كما قلنا ،بينما ظاهر ايات اخرى كقوله تعالى في سورة الاسراء : " وقرانا فرقناه لتقراءه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً " الاية 106.

هذه الاية تدل بظاهرها على ان القران نزل تدريجياً على مدى ثلاث وعشرين سنة هي مدة دعوة النبي (ص) الى الله ،كما ان الواقع التاريخي المتواتر يدل على ان القران نزل بشكل مفرق خلال هذه المدة ايضاً،ألا يدل ذلك على التنافي بين الايات الواردة حول كيفية نزول القرآن؟ وكيف يمكن التوفيق بين هذه الايات؟

والجواب : ان نزول القرآن على رسول الله كما في بعض الروايات كان على نحوين وان ذلك حدث مرتين:

 في المرة الاولى: نزل القرآن كله دفعة واحدة على رسول الله في شهر رمضان وفي ليلة القدر منه بالذات .

وفي المرة الثانية: نزل القرآن بشكل تدريجي على رسول الله على مدى ثلاث وعشرين سنة حسبما كانت تقتضي المصلحة ،وكان ابتداء نزوله عندما بعث رسول الله في اليوم السابع والعشرين من شهر رجب ،واستمر بالنزول الى ان توفي النبي (ص) .

فعندما تقول الاية التي نحن بصدد تفسيرها ان القران انزل في شهر رمضان فانها تشير بذلك الى النزول الدفعي في المرة الاولى ،وعندما يقال ان القران نزل منذ بداية البعثة في السابع والعشرين من شهر رجب فان المقصود بذلك هو النزول التدريجي في المرة الثانية،فإن ابتداء نزول القران بشكل تدريجي كان في السابع والعشرين من شهر رجب وهو اليوم الذي بعث فيه النبي واستمر حتى وفاة النبي(ص) ، وبذلك يرتفع الاشكال ولا يكون هناك اي تناف بين الايات.

ويمكن الاجابة عن التساؤل او الاشكالية المطروحة بنحو اخر اكثر تفصيلاً : وذلك بان نقول انه ورد في القران الكريم بالنسبة الى كيفية نزول القران تعبيران وكلمتان،ففي بعض الايات وردت كلمة ( إنزال) كما في الاية (شهر رمضان الذي انزل فيه القران ) وكما في قوله تعالى  (انا انزلناه في ليلة القدر ) وفي آيات اخرى وردت كلمة (تنزيل) كما في قوله تعالى ( وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً ) والفرق بين الانزال والتنزيل ان الانزال يتم دفعة واحدة واما التنزيل فيتم تدريجياً وعلى دفعات.

ويظهر من ايات القران ان الحقيقة القرانية هي حقيقة واحدة محكمة وغير مفصلة وغير مجزأة،وانما التفصيل والتجزئة عرضت على هذه الحقيقة القرانية بارادة الله وحكمته بعد بعثة النبي (ص).

يقول الله تعالى : كتاب احكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير . هود الاية 1.

ويقول الله تعالى في موضع اخر : انه لقران كريم في كتاب كنون .

 فالقران مكنون في كتاب عند الله ، فهذه الآية والآية التي قبلها وغيرها تدل على ان الحقيقة القرانية حقيقة واحدة، وقد عرض عليها بعد بعثة النبي (ص) صفة التفصيل الى سور وايات وجمل وكلمات وحروف.

وبعد هذا البيان يتضح ان الحقيقة  القرانية الواحدة الموجودة عند الله والتي هي محكمة وغير مفصلة ولا مجزأة،هذه  الحقيقة القرانية انزلت في شهر رمضان وفي ليلة القدر بالذات على قلب رسول الله (ص) دفعة واحدة وجملة واحدة قبل ان يطرأ عليها التفصيل وهذا هو المقصود بقوله تعالى في الآية (شهر رمضان الذي انزل فيه القران ) وقوله تعالى (انا انزلناه في ليلة القدر).

ثم فصلت الحقيقة القرانية الواحدة بعد ذلك وبدأت تنزل بشكل تدريجي  على النبي (ص) وهي مفصلة ومجزئة الى سور وآيات وكلمات وحروف ،في مدة بعثته الشريفة طيلة ثلاث وعشرين سنة حسب الحاجات والمواقف التي كانت تواجه الرسالة الاسلامية ،وكان ابتداء نزول القرآن بشكل تدريجي مفصلاً ومجزئاً في اليوم السابع والعشرين من شهر رجب وكان اول ما نزل هو القسم الاول من سورة إقرأ باسم ربك الذي خلق، وهذا هو المراد بالتنزيل في مثل قوله تعالى :     ( وقرآناً فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلاً ) .

وعلى هذا الاساس يكون القرآن قد انزل مرتين : مرة في ليلة القدر في شهر رمضان دفعة واحدة ، ومرة اخرى بشكل تدريجي حيث استمر النزول فيها ثلاثاً وعشرين سنة هي مدة بعثته الشريفة وكان ابتداء النزول في هذه المرة بسورة القلم اقرأ باسم ربك الذي خلق في اليوم السابع والعشرين من رجب.

هذا كله فيما يتعلق بالمقطع الاول من الاية اعني قوله تعالى : ( شهر رمضان الذي انزل فيه القرآن ) .

واما المقطع الثاني من الآية اعني قوله تعالى : ( هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان ) فقد ذكر الله فيه ثلاث خصال للقرآن الكريم :

الخصلة الاولى : ان القرآن كتاب هدى للناس ،يكشف للناس عن طريق الحق والصواب والخير في حياتهم ،وذلك بما اشتمل عليه من مبادئ وقيم واحكام وتشريعات وقوانين ..

والخصلة الثانية : اشتمال القرآن على البينات الواضحة لكل فرد ، فالقرآن آيات بينات اي واضحات لا لبس فيها ولا غموض ولا ابهام ،توضح للناس حقائق الاشياء ودقائقها بما يزيل كل شبهة ،وهذه البينات هي شواهد وهدايات شتى هدايات في طريق الاخرة وهدايات في طريق الدنيا.

والخصلة الثالثة : انه فرقان ، أي فيه من الحقائق والشواهد ما يفرق ويميز بين الحق والباطل.

ولاجل ذلك كله فان القرآن الكريم يجب ان يأخذ مكانه في حياتنا ليكون في صميم هذه الحياة وليس على هامشها ،ان نجعله القدوة والاسوة فنتدبر فيه ونتأمل في معانيه ونعمل به وننفذ كل أوامره ونطبق كل تعاليمه.

وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين