مقال لجريدة العهد بعنوان: معركة أحد في القرآن الكريم أومحطات ساخنة في معركة أحد

لم يهتم القرآن الكريم في اي معركة من معارك الإسلام الأولى بالحجم الذي اهتم فيه بمعركة احد التي وقعت في شوال من السنة الثالثة للهجرة، وبرغم ذلك فلم يتحدث القرآن بطريقة تفصيلية عن الوقائع الميدانية لهذه المعركة، وإنما اختار بعض المواقف التي تشكل محطات مهمة فيها، من اجل أن يقف المسلمون وقفة تأمل في هذه المواقف ليأخذوا منها العبر والدروس.

 

ونحن هنا نتحدث عن بعض هذه المواقف التي اثارها القرآن فيما يتعلق بهذه المعركة ضمن النقاط التالية:

النقطة الأولى:من المعروف أن معركة أحد انتهت بهزيمة المسلمين وقد تركت هذه الهزيمة والخسائر التي مني بها المسلمون، حيث سقط منهم سبعون شهيدا إضافة إلى عدد كبير من الجرحى تركت في نفوس المسلمين أزمة نفسية شديدة.

       فقد أصيب المسلمون بفعل الهزيمة بصدمة عنيفة وحزن عميق وشعروا بالضعف والوهن والإحباط، حتى كاد اليأس أن يتسرب إلى البعض والشك إلى البعض الآخر.

       القرآن الكريم تحدث عن هذه الحالة النفسية التي عاشها المسلمون إنذاك، واستنكر حالات الوهن والضعف والحزن واليأس والشك  التي اصابت المسلمين، لأن الوهن والضعف والشعور بالإحباط واليأس والشك ليست من اخلاق الإنسان المؤمن المرتبط بالله سبحانه وتعالى، فالمؤمن هومن يتعالى على الجراح، ولا يضعف أمام أي إنكسار أوهزيمة لأن المؤمن يبقى مع الله، ويستمد القوة والعزم والإرادة من الله ويعرف ان القوة لله جميعا وأن العزة لله ويقول كما قال رسول الله في اشد ساعات المحنة " إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا" وهو الذي لا يفقد الأمل بنصر الله ما دام أنه يأخذ بأسباب النصر، والمؤمن بدل أن ييأس ويضعف أمام الهزيمة يقف بقوة وعزم راسخ ليأخذ العبرة من الأحداث ويدرس الاسباب التي ادت إلى الهزيمة،ويتفحص مواطن القوة والضعف من اجل أن يصحح الاخطاء في المستقبل ويتفادى عوامل الانكسار والهزيمة.

       ولذلك فإن القرآن حاول ان يبعث الأمل في نفوس المسلمين في أحد، وأن يعيد اليهم الثقة بأنفسهم، ويجدد عزيمتهم وإرادتهم، وذلك عن طريق التشجيع والمواساة فقد قال تعالى في سورة آل عمران:" ولا تهنوا ولا تحزنوا وانتم الأعلون، إن كنتم مؤمنين أن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله" فإذا كنتم قد هزمتم بأحد فقد هزم المشركون في بدر: وتلك الأيام نداولها بين الناس" فليس هناك انتصار دائم وليس هناك انكسار دائم لأن الدنيا مداولة بين الحق والباطل فقد ينتصر الحق في معركة وقد ينتصر الباطل في معركة اخرى، وهذه هي سنة الله في الكون والحياة فعلى المؤمن أن لا ييأس من النصر ولا يضعف ولا يشعر بالحزن والإحباط ولا يعيش المأساة عندما يخسر معركة في اي موقع من مواقع الصراع، سواء كان الصراع مع إسرائيل أو مع الاستكبار العالمي أو مع اي قوة طاغية وظالمة في الداخل أو الخارج، وإنما عليه أن يدرس أسباب الهزيمة ليتعلم من اخطائه وليحذر ويواجه احداث المستقبل بالرصد والوعي والاتزان.

النقطة الثانية:إن الهزيمة والانكسار والفشل في بعض مواقع الصراع قد يكون اختبارا وابتلاء من اجل تمحيص الناس وتمييزهم ليتميز المؤمن من غير المؤمن، والصابر من غير الصابر، والصادق من غير الصادق، والملتزم بالتكليف من غير الملتزم، لأن القرآن يعتبر أن جوهر شخصية الإنسان تتضح عندما تخضع للبلاء، فالبلاء هو الذي يحدد حقيقة الإنسان وواقعه، فالإنسان قد يتصور نفسه قويا وشجاعا وصلبا في مواقع التحدي ولكن عندما يخضع للتجربة العملية ويحين وقت الجد وينزل إلى ساحة الجهاد ويخضع للابتلاء يتبين العكس، فقد يهتز إيمانه وقد يعيش حالات الشك والتراجع، وهذا الواقع اكدته احداث أحد، فالهزيمة الطارئة زلزلت ضعاف النفوس التي كانت تدعي الايمان وجعلتها تعيش حالات الشك بصدق رسول الله (ص)، بينما زادت الهزيمة البعض الآخر قوة وإصرارا وثباتا على خط الرسالة وفي مواجهة التحديات، وبذلك انكشف الإيمان المزيف من الإيمان الخالص، والإيمان القوي الراسخ في العقول والقلوب من الإيمان المزلزل.

وايضا فإن المسلمين في احد كانوا يتمنون الموت والشهادة في ساحات الجهاد، ولكن حين خضع بعضهم للتجربة وفرضت عليهم المعركة من جديد، واصبحوا قاب قوسين أو ادنى من الموت سقطوا في الامتحان وحاولوا الفرار من أرض المعركة، ولم يثبت مع رسول الله (ص) إلا القلة، برغم انهم كانوا يرونه يتعرض لهجوم واسع من قبل المشركين، وقد اصيب ببعض الجراحات، وقد صور لنا القرآن هذا الواقع الذي كان يعيشه بعض المسلمين اثناء خضوعهم للتجربة في معركة احد، حيث قال تعالى في سورة آل عمران أيضا: " وليمحص الله الذين امنوا ويمحق الكافرين، أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين، ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه فقد رأيتموه وانتم تنظرون" 142 – 143,

       فالجنة التي وعد الله بها عباده لا تقدم للكسالى والمتخاذلين الذين يقضون حياتهم في الراحة والاسترخاء ولا يتحملون مسؤولياتهم في الحياة.

       الجنة تعطى للمؤمنين الذين يصمدون أمام التحديات، والذي يجسدون إيمانهم جهادا وتضحية وصبرا في مواقع التحدي. والذي يقدم حياته ضحية في سبيل إيمانه ورسالته وقضيته، فمن أراد الجنة فليسع لها بوسائلها وفي طليعة هذه الوسائل الجهاد والثبات والصبر في مواقعه وساحاته.

النقطة الثالثة:إن من اخطر المواقف التي واحهت المسلمين في نهاية معركة أحد هو موقف البعض الذي بدأ يفتش عمن يأخذ له الأمان من العدو من أجل أن يسلم بنفسه، أو بدأ يشكك بصدق رسول الله (صلى الله عليه وآله) ونبوته، وذلك عندما انطلقت الإشاعات عن مقتل النبي وشعر المسلمون بالقلق والضياع.

       فقد قال بعض المسلمين عندما سمع اشاعة أن النبي قد قتل: ليتنا نجد من يأخذ لنا الأمان من ابي سفيان. وقال البعض الآخر ايضا: لوكان محمد نبيا لم يقتل، الحقوا بدينكم الأول.

       وقد تحدث القرآن في معرض تحليله لمواقف المسلمين آنذاك عن هذا الموقف حيث قال تعالى: وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل، إفإن مات أو قتل انقلبتم على اعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا وسيجزي الله الشاكرين" آل عمران / 144.

       فالمزلزلون في إيمانهم وغير الواعين، ينقلبون على اعقابهم، ويتراجعون عن دينهم وعن الحق بعد أن يسمعوا بمقتل الرسول ويشعروا بغياب القائد.

       ولكن في مقابل هؤلاء نجد من الرجال المؤمنين من يمثلون حقيقة الإيمان والثبات على الحق حتى في حال غياب القائد أو موته.

       فقد روي في احد أن رجلا من المهاجرين مر برجل من الانصار يتشحط في دمه، فقال المهاجر للأنصاري: أعلمت أن محمدا قد قتل؟

فأجابه الانصاري: إن كان محمد قد قتل فقد بلغ فقاتلوا عن دينكم.

       وفي رواية اخرى: إن انس بن النصر مر برجال من المهاجرين والأنصار في معركة أحد وقد انكفؤوا عن الجهاد والقتال، فقال لهم انس: ما يجلسكم، فقالوا: قتل محمد.

       فقال: إن كان محمد قد قتل، فإن رب محمد لم يقتل، وما تصنعون بالحياة بعده؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه.

       ثم قال: اللهم اني اعتذر إليك من قول هؤلاء، وأبرأ إليك مما جاؤوا به، ثم شد سيفه وقاتل حتى قتل رضوان الله عليه.

       والشيء الذي نستفيده من ذلك: أن غياب القائد لا يوقف المسيرة، ولا يلغي الرسالة ولا القضية،فإذا مات أو أصيب فلا يجوز أن ينحرف المسلمون عن خط الرسالة، أو يتخلوا عن مسيرتهم وقضيتهم أو ينقلبوا على اعقابهم ويتراجعوا إلى الكفر والضلال. وإنما عليهم أن يجردوا انفسهم لحمل مسؤولية الرسالة من بعده وإكمال المسيرة.

النقطة الرابعة:لعل قيمة معركة أحد أنها جمعت للمسلمين النصر والهزيمة، فقد عاش المسلمون فيها شروط النصر في بدايتها وشروط الهزيمة في نهايتها.

 ومن جملة ما نستفيده من دروس هذه المعركة: إن الله يعطي النصر للناس إذا اخذوا بأسباب النصر وبشروط النصر أي إذا التزموا بالصبر والثبات واحترموا خطط المعركة، ولم يتنازعوا أو يقعوا تحت تأثير مطامعهم الشخصية، فقد انتصر المسلمون في احد عندما نفذوا خطط المعركة بدقة، وعاشوا الانضباط أمام أوامر القيادة،ولكن موازين النصر انقلبت لمصلحة الاخرين عندما تخلى المسلمون عن مواقعهم وخالفوا اوامر القيادة وتنازعوا حول الغنائم والمكاسب الخاصة والدينيوية.

       وهذا ما يجب أن نلتفت إليه لنوظفه في معاركنا مع اعدائنا. وهو أن على المسلمين أن لا يتنازعوا عندما يخوضون معركة الحق في مواجهة الباطل، ومعركة الجهاد في مواجهة المستكبرين، كما أن عليهم إذا ارادوا الانتصار أن يكونو صفا واحدا في الإخلاص للقضية وللهدف وللامة وأن يكونوا صفا واحدا في الانضباط أمام أوامر القيادة، وفي الانسجام مع الخطة الحكيمة.                                

                وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين