مقال لجريدة العهد بعنوان : الانتفاع بالامام المهدي(ع)

الأمانة بمفهومها السياسي والديني ، هي حاجة إجتماعية وإسلامية ضرورية تقتضيها طبيعة الاجتماع الإنساني وطبيعة نظام الإسلام واحكامه وتشريعاته، وذلك لأن الإسلام نظام كامل وشامل لجميع جوانب الحياة،

فهو ينظم النشاط الاجتماعي في ميادينه المختلفة، ويشرع من الاحكام والقوانين ما يصون به حقوق الافراد على المجتمع وواجباتهم نحوه والعكس كذلك، فلا بد لهذا الدين من قائد يعمل على شرح اهدافه ويقوم بنشر تعاليمه ومبادئه وتطبيق احكامه وقوانينه. فيقيم العدل بين الناس ويحمي الشريعة من التحريف والتشويه، ويقوم بفرض النظام وإدارة شؤون المجتمع ، ويحفظ كيان الامة من الاخطار والتحديات.

وقد كان النبي (ص) وهو مؤسس الإسلام يمارس هذه المسؤوليات في حياته، وأما بعد وفاته فقد كان لا بد من إمام يحرس عقائد الإسلام واحكامه، ويصونها عن أي خطأ أو انحراف، ويفسر للناس ما التبس عليهم من امور دينهم ويكون إضافة إلى ذلك القائد المعنوي والمادي والظاهري والباطني للمجتمع الإسلامي في جميع جوانب الحياة، لأنه لا يمكن تحقيق الأهداف الكبيرة للإسلام من دون الإمام الموجه للمسيرة الإسلامية، والمتمم لما بدأه النبي (ص) في بناء الدولة والمجتمع الإسلاميين.

ومن هنا كانت الإمامة امتدادا للنبوة، وضمانا لاستمرار الرسالة .

وقد اجمع المسلمون على ضرورة وجود الإمام في كل عصر وزمان. وإذا كان فيهم من يرى خلاف ذلك  كالخوارج الذين رفعوا شعار لا حكم إلا لله فهو شاذ لا يعتنى به.

وقد بين أئمة أهل البيت (ع) فلسفة أن يكون في كل عصر وزمان ممثل إلهي نبي أو إمام معصوم.

فقد روي عن علي (ع): لا تخلو الأرض من قائم لله بحجة إما ظاهرا مشهورا وإما خائفا مغمورا، لئلا تبطل حجج الله وبيناته.

عن الإمام الباقر (ع): إن الله لم يدع الأرض بغير عالم، ولولا ذلك لم يعرف الحق من الباطل.

عن الإمام الصادق (ع): إن الأرض لا تخلو من إمام كلما زاد المؤمنون شيئا ردهم وإذا نقصوا شيئا اتمه لهم.

وقد تواترت النصوص الدالة على أن الأئمة بعد النبي (ص) إثنا عشر إماما كلهم من قريش.

ولم نجد انطباقا تاريخيا لهذه النصوص على غير أئمة اهل البيت (ع) ومنهم الإمام محمد بن الحسن المهدي المنتظر (عج) الإمام الثاني عشر.

بل أننا نجد في بعض الروايات تصريحا بأسمائهم وإن أولهم علي بن أبي طالب (ع) وآخرهم القائم المهدي (ع) الذي تكون غيبته طويلة، يرجع عنها قوم ويثبت عليها آخرون، فإذا كان آخر الزمان يخرج فيملأ الدنيا قسطا وعدلاً.

وهنا قد يتساءل الكثيرون من الناس أنه مع غيبة الإمام واحتجابه عن الناس كيف يتحقق حضوره  الفاعل في الأرض كإمام يقوم بحماية الإسلام وقيادة الأمة.

الحقيقة أن الإمام حاضر وموجود بيننا في هذا العالم يعيش كما نعيش ويمارس مهامه ومسؤولياته بصورة طبيعية ولكن من دون أن نعرفه بشخصه، فهو يرى الناس ويعرفهم ويرونه ولا يعرفونه، وإنما يرون فيه شخصا عاديا كسائر الناس لا يلفت النظر، ولا يثير الانتباه.

" ويمكن للإمام المهدي (ع) أن يعيش في أي مكان يختاره وفي أي بلد يفضله سنين طويلة من دون أن يلفت إلى عنوانه وحقيقته نظر أحد. وتكون حياته في تلك الفترة كحياة اي شخص آخر يكتسب عيشه من بعض الأعمال الحرة كالتجارة أو الزراعة أو غيرها، ويبقى على حاله هذه في مدينة واحدة أو عدة مدن حتى يأذن الله له بالفرج والظهور"

وقد ورد في بعض الروايات ما يشير إلى هذه الحقيقة، فقد نقل الشيخ الطوسي في كتاب الغيبة السفير الثاني عن الشيخ محمد بن عثمان العمري أنه قال: " والله إن صاحب هذا الأمر ليحضر الموسم كل سنة يرى الناس ويعرفهم ويرونه ولا يعرفونه"

"والمقصود بصاحب هذا الأمر الإمام المهدي (عج) والمراد بالموسم موسم الحج، والرواية واضحة الدلالة على عدم اختفاء الشخص وهي مقترنة بالقسم بالله تعالى تأكيدا، وصادرة من سفير المهدي (عج)وهو اكثر الناس اطلاعا على حاله".

وفي بعض النصوص: أنه يحضر المجالس، ويعود المرضى، ويغيث المضطرين وربما يقضي حوائجهم ... وإن لم يعرفوه.

فالإمام إذن موجود بشخصه في هذا العالم وليس شخصه وجسمه مختفيا، وإنما الخافي هو عنوانه واسمه وحقيقته فقد نراه ولا نعرف أنه الإمام لخفاء عنوانه.

وإذا كان الإمام (عج) حاضرا بيننا بهذه الصورة، فأي مانع من أن يمارس مهامه بحسب موقعه، ويعمل على تسديد الأمة وتوجيهها وإرشادها إلى مصالحها، وليس من الضروري أن يكون تسديده للامة وقيامه بمهامه ومسؤولياته كإمام بشكل مباشر وبصورة علنية وعبر الوسائل المعروفة، كوسائل الإعلام مثلا، بل قد يتبع بعض الأساليب التي تناسب موقعه وتنسجم مع ظروفه وأوضاعه.

فقد يطرح بعض المشاريع والمسائل السياسية والاجتماعية والجهادية وغيرها بوسائل معينة تناسب الواقع والظروف الموضوعية التي تعيشها الأمة، من دون أن يباشر ذلك بصورة واضحة وعلنية.

وهذا صاحب موسى (ع) كان وليا من اولياء الله، وقد صحبه موسى وهو اكبر انبياء الله في عصره، فقد خرق السفينة التي كان يمتلكها المستضعفون ليصونها من غصب الملك،  ولم يعلم اصحاب السفينة بتصرفه وإلا لصدوه عن أن يخرق سفينتهم جهلا منهم بغاية عمله.

وفي حياتنا العادية الآن، قد نجد كثيرا من الأمور التي انجزت وتحققت من دون أن نعرف في بعض الحالات مصدر هذا العطاء أو القائم بهذا الإنجاز أو ذاك، ولذلك فإننا قد نفسر بعض الإنجازات البناءة والنافعة- حين لا نجد لها اسبابا ظاهرة- نفسرها على انها تسديد إلهي. إلا أنه تسديد إلهي بوسائله وأدواته الطبيعية وقد يكون الإمام (عج) هو احد تلك الوسائل.

             ومن هنا فإنه ليس من المستبعد أبدا أن يكون الإمام (ع) وراء كثير من الاعمال والافكار الإسلامية الاجتماعية وغيرها، ويكون هو في الواقع الذي حرك هذه الأعمال أوالافكار عن طريق اللقاءات العفوية لشخص أو لجماعة أوفئة معينة، وبذلك نستطيع أن نفهم بشكل واع الأحاديث الواردة عن ائمة أهل البيت (ع)، وعن الإمام المهدي نفسه التي تثبت قيام الإمام (ع) ببعض النشاطات النافعة والمفيدة للأمة.

من ذلك ما رواه سليمان الأعمش عن الإمام الصادق (ع) في حديث حيث قال للإمام: كيف ينتفع الناس بالحجة الغائب المستور؟

       فقال (ع): كما ينتفعون بالشمس إذا سترها سحاب.

 ومنها: ما ورد عن الإمام المهدي (ع) : وأما وجه الانتفاع بي في غيبتي فكالانتفاع بالشمس إذا غيبها عن الابصار السحاب...واني الأمان لأهل الأرض كما أن النجوم أمان لأهل السماء

       وفي بعض الأحاديث: لولا وجود الإمام لساخت الأرض بأهلها.

 وهذا يعني أن الإمام لو سحب لطفه ولم يتدخل في بعض الشؤون، ولم يعمل على رعاية الأمة وتسديدها في حركتها ومواقفها فالله  وحده يعلم كيف سيصبح حال المجتمع الإسلامي، وإلى أي درجة من الانحطاط والانحراف يمكن أن يصل ....

       ومما يؤكد حضور الإمام (ع) في الساحة الإسلامية وفي ساحات الصراع ورعايته للامة حتى في حال غيبته ما كتبه الإمام نفسه إلى الشيخ المفيد أبي عبد الله محمد بن محمد بن النعمان في شهر صفر سنة 410 هـ حيث جاء فيه: " إنا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين لذكركم ، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء - أي الشدائد – واصطلمكم الاعداء، فاتقوا الله جل جلاله، وظاهرونا على انتشالكم من فتنة قد افاقت عليكم، يهلك فيها من همَّ أجله ويُحمى عنها من أدرك امله .....).

       ويظهر لمن يطلع على كامل الرسالة مدى متابعة الإمام لشؤون الأمة وما تتعرض له من اخطار وتحديات، كما يتضح منها أنه (ع) يتدخل في الوقت المناسب وبحسب ما تسمح به ظروفه وأوضاعه، فيوجه الأمة وقادتها الحقيقيين إلى ما يلزم ويعمل على رعايتها ودفع الاخطار عنها حسب الوسائل المتوافرة لديه، بالإضافة إلى الرعاية الإلهية الغيبية من خلال الإمام عليه السلام بالطرق التي قد لا تصل إليها أفهامنا ولا تنالها عقولنا.

       كما أن هذه الرسالة وغيرها مما هو وارد في هذا المجال يدل على إمكان أن يصل الخواص والمخلصون من افراد الأمة إلى الإمام (ع) ينتفعون بوجوده وتنتفع الامة بواسطتهم.

       على أنه ليس من الضروري حتى ينتفع الإسلام والمسلمون بوجود  الإمام (ع) أن يتولى هو بنفسه وبصورة مباشرة كل الأمور والشؤون بل له أن يوكل غيره ليقوم بالنيابة عنه بذلك كما فعل في الغيبة الصغرى عبر السفراء الأربعة.

       وأما في الغيبة الكبرى فقد نصب (ع) الفقهاء والعدول وجعلهم نوابا عنه في القيام بمسؤوليات الإمامة والقيادة وفي إجراء السياسات العامة، وجعلهم حجة على الناس.

       فالولي الفقيه العالم الجامع للشرائط، العارف بمقتضيات الزمان. المتصدي لشؤون المسلمين هو الذي يقوم في غيبة الإمام بشؤون القيادة السياسية والدينية، وهو الذي يحدد التكليف والوظيفة العملية للناس حيال مختلف القضايا والمستجدات.

       وفي مرحلتنا فإننا إذا اردنا أن نأخذ مجموع المواصفات والشروط المحددة للولي الفقيه من العلم والتقوى والعدالة والشجاعة والمعرفة بالزمان وحسن التدبير والإدارة والوعي السياسي والاجتماعي والتاريخي والحسم والحزم والقاطعية بحكمة، لو أردنا أن نأخذ هذه المواصفات لنطبقها على شخص بعينه، فإننا لا نجد نظيرا لسماحة الإمام القائد السيد علي الخامنئي دام ظله.

واخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين