تجسد الأعمال وحضورها يوم القيامة (72)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(يوم تجد كلُ نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء تودُّ لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ويُحذركم الله نفسه والله رؤوف بالعباد) آل عمران/30.

هذه الآية تبين بوضوح تجسد الأعمال وحضورها يوم القيامة، الأعمال الصالحة والأعمال السيئة يجدها الإنسان حاضرة أمامه يوم القيامة، فيرى كلُ إنسان ما عمل من خيرٍ وما عمل من سوء حاضراً أمامه.

الذين يشاهدون أعمالهم الصالحة والحسنة يفرحون ويستبشرون, أما الذين يشاهدون أعمالهم السيئة فإنه يستولي عليهم الخوفُ والرعبُ ويتمنون لو أنهم يستيطعون أن يبتعدوا عن تلك الأعمال.

وكلمة (الأمد) الواردة في الآية (توَدّ لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً) تعني الفاصل الزمني, أي أن كل نفس عندما تجد عملها السيء حاضراً أمامها تود وتتمنى لو أن بينها وبين عملها السيء فاصلاً زمانياً بعيداً.

إذن فالمذنب والعاصون كما تقول الآية يتمنون أن يمتد الفاصل الزماني بينهم وبين ذنوبهم زمناً طويلاً، وهو تعبير عن ذروة ما يشعرون به من تعاسة جراء ذنوبهم وأعمالهم السيئة، وإذا كان المذنبون يتمنون لو كان بينهم وبين أعمالهم السيئة فترةٌ زمنية طويلة، فالصالحون والمطيعون على العكس من هؤلاء فهم يتمنون عندما يشاهدون أعمالهم الصالحة لو أنهم كانوا أسرع للوصول إليها، ولم يكن بينهم وبينها أيُ فاصل زمني.

ثم تقول الآية: (ويحذرُكم الله نفسه والله رؤوف بالعباد) ففي الجملة الأولى من هذه العبارة أي (ويحذركم الله نفسه)، يحذر الله الناس من عصيان أوامره, أي أن على الناس أن تخاف الله وأن تحذر من التمرد عليه، وفي الجملة الثانية (والله رؤوف بالعباد)، يذكر الله الناس برأفته ورحمته، ويبدو أن هاتين الجملتين هما على عادة القرآن مزيج من الوعد والوعيد والترهيب والترغيب ومن المحتمل أيضاً أن تكون الجملة الثانية (والله رؤوف بالعباد) تأكيداً للجملة الأولى (ويحذركم الله نفسه)، وهذا أشبه بمن يقول لك: إني احذرك من هذا العمل الخطير وإن تحذيري إياك دليلٌ على رأفتي بك إذ لولا حبي لك لما حذرتُك.

ومهما يكن فإن الآية كما قلنا تدلُ بوضوح على نظرية تجسد وتجسم الأعمال يوم القيامة وحضورها.

وهناك آياك أخرى كثيرة تدل على حضور الاعمال يوم القيامة كقوله تعالى في سورة الكهف: (ووجدوا ما عملوا حاضراً ولا يظلم ربك أحداً) 49.

وهنا لا بد أن نعرف معنى حضور الأعمال الصالحة والسيئة يوم القيامة؟ وبعبارة أخرى: كيف يكون حضور الأعمال في الآخرة؟؟

بعض المفسرين قال: إن المقصود من حضور الأعمال هو حضور ثوابها وعقابها، فعندما يقول الله: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً وما عملت من سوء) أي يوم يجد الإنسان ثواب عمله الصالح حاضراً أمامه فيتنعم بذلك الثواب؟, ويوم يجد عقاب عمله السيء حاضراً أمامه فيتعذب ويتألم بذلك العقاب.

وبعض المفسرين قال: إن المراد من حضور الأعمال حضورُ سجل الأعمال وصحيفة الأعمال التي دونت فيها الأعمال كلها, ففي يوم القيامة تجد فيه كلُ نفس سجل أعمالها حاضراً أمامها وقد كتب فيه ما عملته من أعمال صالحة وسيئة, خيرة وشريرة.

ولكن من الواضح أنه لا هذا القول ولا ذاك القول ينسجم مع ظاهر الآية, لأن الآية تقول بوضوح: إن الإنسان يوم القيامة يجد عمله (يوم تجد كل نفس).

وتقول أيضاً: (إن المذنب والمسيء يود لو أن بينه وبين (عمله) القبيح فاصلاً زمنياً طويلاً (أمداً بعيداً) فهنا العمل نفسه هو الذي يدور حوله الكلام، لا سجل الأعمال ولا ثواب الأعمال وعقابها, فالآية لم تقل يوم تجد كل نفس سجل ما عملت من خير محضراً، ولم تقل يوم تجد كل نفس ثواب ما عملت, أي تجد عملها فالعمل هو نفسه الذي يحضر يوم القيامة وليس شيئاً آخر.

أما كيف يحضر وعلى أية صورة؟ فإن الذي يظهر من بعض الآيات والأحاديث الواردة في هذا المجال هو أن العمل نفسه يحضر يوم القيامة ولكن بصورة أخرى أي شيء آخر وليس بصورته الدنيوية, وتوضيح ذلك: هو أن لكل عمل من أعمالنا حسناً كان أم سيئاً لكل عمل من أعمالنا صورةٌ دنيوية هي التي نراها عندما نمارس نفس العمل, وصورة آخروية كانت في باطن العمل وفي يوم القيامة، وبعد أن تطرأ على العمل تحولات وتجري عليه تغييرات وتبديلات يفقد العمل صورته الدنيوية ويظهر بصورته الآخروية, مثلاً عمل الغيبة الذي يمارسه الإنسان في الدنيا صورته الدنيوية هو الكلام والحديث عن عيوب الناس، لكن هذا العمل يوم القيامة يظهر ويحضر بصورته الآخروية ويتجسم بصورة طعام كلاب النار، كما في بعض الأحاديث.

وفي موضوع أكل مال اليتيم يذكر القرآن الكريم: (إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً)، فأكل مال اليتيم ظلماً هو سلبُ أموال اليتيم واختلاسُ ممتلكاته وهذه هي صورة هذا العمل في الدنيا, ولكن هناك صورةٌ آخروية لهذا العمل كامنةٌ في باطن هذا العمل وهذه الصورة لا تظهر في الدنيا وإنما تظهر في الآخرة وهي أكل النار فعندما ينتقل الإنسان الذي سلب أمول اليتامى إلى الآخرة فإن النار تلتهمه وتحرقه, لأن أكل مال اليتيم ظلماً يتجسم في الآخرة على صورة أكل النار, فتلتهم النار ذلك الإنسان العاصي الذي ارتكب هذا العمل في الدنيا.

وأما الأعمال الصالحة التي يفعلها الإنسان في هذه الدنيا فإنها تأتي في الآخرة وتحضر بصورة نور وضياء ونعيم مادية جميلة.

إذن فنحن يوم القيامة نجد أعمالنا عينها حاضرة وموجودة ولكن بشكلها الآخروي وبصورتها الآخروية وليست بصورتها الدنيوية, فتتمثل الأعمال الصالحة نعيماً وصوراً جميلة، بينما تتمثل الأعمال السيئة ناراً وحيات وعقارب وما إلى ذلك, أي يظهر الوجه الباطني للأعمال في الآخرة فتظهر على حقيقتها، وهذا هو معنى تجسيد الأعمال الذي يقول به أكثر المفسرين والعلماء.

وقد ورد في روايات الإسراء والمعرج أن النبي (ص) عندما شاهد النار شاهد فيها أشخاصاً ينالون مختلف ألوان العذاب, وألوان العذاب هذه كان تجسيداً لأعمالهم السيئة التي ارتكبوها في الدنيا, يقول النبي (ص) في بعض تلك الأحاديث التي يذكر فيها مشاهداته في حادثة المعراج: "مضيت فإذا أنا بأقوام تُقذف النارُ في أفواههم وتخرج من أدبارهم فقلت: من هؤلاء يا جبرائيل؟ فقال هؤلاء الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً، إنما يأكلون في بطونهم ناراً، ثم مضيت فإذا أنا بأقوام يريد أحدهم أن يقوم فلا يقدر من كبر بطنه فقلت: من هؤلاء يا جبرائيل؟ فقال: هؤلاء الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس.

ويقول في حديث آخر: رأيت امرأةً معلقةً بشعرها، ودماغ رأسها يغلي فسألت عنها فقيل إنها كانت لا تغطي شعرها من الرجال، ورايت امرأة معلقة بلسانها لأنها كانت تؤذي بلسانها الناس، ورأيت امرأةً تأكل من لحم جسدها لأنها كانت تزين للناس، ورأيت امرأةً رأسها رأس خنزير وبدنها بدن حمار لأنها كانت نمامة كذابة.

إذن هذه الأعمال السيئة التي ارتكبها هؤلاء في الدنيا تجسدت في الآخرة على هذه الصور.

وإذا كانت نفس الأعمال تحضرُ أمام الإنسان يوم القيامة وتتجسد بصورها الحقيقية الآخروي,ة فإن الدرس الذي يجب أن نأخذه من هذه الفكرة، هو أن علينا أن ندقق فيما نرسله من أعمالنا لآخرتنا كما قال الله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد واتقوا الله) الحشر/ 18.

فإن هذه الآية تدعو المؤمنين بلغةٍ صريحةٍ واضحةٍ وتأمرُهم أن يدققوا فيما يرسلونه من أعمالٍ لغدهم لآخرتهم لأنكم ستجدون عين ما ترسلونه وليس شيئاً آخر، ما ترسله من عملك في الدنيا إلى الآخرة سوف تجده يوم القيامة بعينه بحقيقته بصورته الآخروية التي فيها نعيم أو عذاب حاضراً أمامك ولن تجد شيئاً آخر، لذلك  على الإنسان أن يدقق في أعماله وسلوكه ومواقفه لئلا يُرسل شيئاً يجده يوم القيامة شقاءاً وعذاباً.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين