العلاقة بين الإيمان والعمل الصالح (19)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن لهم جناتٍ تجري من تحتها الأنهار كلما رُزِقوا منها من ثمرةٍ رزقاً قالوا هذا الذي رُزقنا من قبلُ وأُتوا به مُتشابهاً ولهم فيها أزواجٌ مُطهرة وهم فيها خالدون) 25.

آخر آية في بحثنا السابق تحدثت عن مصير الكافرين وما أعده الله لهم من عذاب في نار وقودها الناس والحجارة, وهذه الآية تتحدث عن مصير المؤمنين المتلزمين بالإسلام قلباً وقولاً وعملاً، وما أعده الله لهم من نعيم في الجنة.

ومن عادة القرآن غالباً أن يقابل الترهيب بالترغيب, فغالباً عندما يتحدث عما أعده الله للكافرين والمتمردين من عقاب وعذاب وجحيم، يتحدث بعد ذلك مباشرة عما أعده الله للمؤمنين من نعيم وأجر وثواب ورضوان عند الله، وهذا الأسلوب هو من أجل المبالغة في الإرشاد والموعظة، ومن أجل أن تتضح الحقيقة أكثر بالمقارنة بين مصير الكافرين والمتمردين ومصير المؤمنين والمطيعين، على الطريقة القرآنية في البيان والتوضيح وإلقاء الحجة التامة على الناس.

والحديث في هذه الآية التي قرأناها، يقع في نقطتين أساسيتين حسب مقاطع الآية:

النقطة الأولى: في معنى الإيمان والعمل الصالح, والنقطة الثانية: في خصائص نعم الجنة.

أما النقطة الاولى: فهي أن للإيمان معنيين وصفتين، صفة رسمية شكلية, وصفة حقيقية.

أما الإيمان الرسمي والشكلي، فهو ما يتعارف عليه الناس عندما يصفون إنساناً بأنه مؤمن على أساس أنه ينتسب إلى بلد إسلامي أو إلى مذهب أو طائفة إسلامية, أو على أساس ما يطلق من كلمات الإيمان, أو على اساس ما يقوم به في الظاهر من أعمال المؤمنين، فيقولون: فلان مؤمن لأنه يتشهد الشهادتين، وفلان مؤمن لأنه يصلي ويصوم ويحج وإن كان يمارس ذلك في الظاهر وفي الشكل بدون اعتقاد.

وهناك صفة حقيقية للإيمان، صفة تعيش في قلب الإنسان فتضيء قلبه، وتعيش في فكر الإنسان فتضيء فكره وعقله، وتعيش في حياة الإنسان فتضيء حياته، بحيث يشعر الإنسان بالنور يحيط به من كل جانب ومكان.

 المعنى الحقيقي للإيمان يقصد به: أن يؤمن الإنسان بالله وبتوحيده ورسالته وباليوم الآخر، وأن يعمل بما أنزله الله على رسوله، وأن يلتزم بكل مفاهيم الإسلام وأحكام الإسلام.

وبعبارة أخرى: الإيمان الحقيقي هو أن تعتقد في قلبك بكل مبادئ الإسلام, وأن تعترف بذلك بلسانك وأن تعمل بأحكام الإسلام وبتعاليم الإسلام وبما يفرضه عليك إيمانك واعتقادك بالإسلام، أي أن تعتقد بقلبك وأن تتحرك في حياتك العملية في أخلاقك وفي سلوكك وفي علاقاتك وفي مواقفك على طبق ما اعتقدت به.

ومن هنا فقد ورد في الحديث: الإيمان هو اعتقاد في القلب, وإقرار باللسان, وعمل بالجوارح والأركان.

 وأعلى مراتب الإيمان ما بيّنه الله سبحانه وتعالى في قوله: (ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والنبيين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب، وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون) البقرة/177. هذا هو الإيمان الحقيقي.

وأما العمل الصالح: فهو كل عمل يحبه الله وكل عمل يرضاه الله، مما ينفع الفرد وينفع المجتمع ويبني الحياة على أسس صالحة ومتينة، ولا يقصد بالعمل الصالح، الأعمال العبادية فقط, وإنما يراد به كل الأعمال الواجبة وكل الأعمال المستحبة، كل الأعمال التي تنفع الناس وكل الأعمال التي ترفع من مستوى الناس, من مستواهم السياسي ومن مستواهم الاقتصادي ومن مستواهم الاجتماعي والثقافي، في الإطار الذي يرضاه الله سبحانه وتعالى.

وعليه فالصلاة عمل صالح والصوم والحج والخمس والزكاة، وكذلك الصدقة والإنفاق على الأيتام والفقراء والمساكين والسائلين عمل صالح، وتعليم الناس عمل صالح، والصبر في ساحات الجهاد والمواجهة عمل صالح, والدفاع عن الأرض والمقدسات عمل صالح، ومواجهة المستكبرين والظالمين عمل صالح، والمطالبة بحقوق الناس عمل صالح، وهكذا كل ما يعود بالخير على الناس فهو عمل صالح، ولهذا فقد ذكر الله لنا آية من الآيات التي يضرب بها مثلاً فقال تعالى: (فأما الزبدُ فيذهبُ جُفاءاً وأما ما ينفع الناس فيمكُثُ في الأرض) الرعد/ 17. ليعرفنا بأن علينا أن نتوجه إلى الأعمال الصالحة التي تنفع الناس، ولا ينفع الناس إلا الأشياء التي تشارك في بناء روحهم وبناء فكرهم وبناء حياتهم من جميع الجهات، ليتحقق لهم التوازن في الحياة.

ونلاحظ في كثير من الآيات كيف يقترن ذكر الإيمان بذكر العمل الصالح، حتى كأن الاثنين متلازمان لا يفترقان، ففي الآية التي نتحدث عنها يقول تعالى: (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات). وفي آية اخرى: (ومن يؤمن بالله ويعمل صالحاً يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا) الطلاق/11.

وفي سورة النور يقول تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض)  55. إلى غير ذلك من الآيات.

فما من آية ـ غالباً ـ ذُكر فيها الإيمان إلا وذُكر فيها العمل الصالح, لأن الإيمان والعمل يكمل بعضها الآخر، فالعمل الصالح هو الذي يكمل شخصية الإنسان  المؤمن ويكمل كيان الإنسان المؤمن.

 إن اقتران ذكر الإيمان بذكر العمل الصالح في الآيات القرآنية يشير إلى أنه لا قيمة للإيمان وللاعتقاد القلبي بدون العمل وبدون الممارسة، الإيمان الحقيقي يجب أن يتجسد في العمل وفي الحركة وفي السلوك وفي الارتباط بالله على المستوى العبادي وعلى المستوى الأخلاقي وعلى جميع المستويات وفي كل جانب من جوانب الحياة.

بعضُ الناس عندما تطالبهم لماذا لا تصلون؟ لماذا لا تصومون؟ لماذا لا تقومون بما فرضه الله عليكم من واجبات ومسؤوليات؟ لماذا تتعاونون مع الظالمين؟ لماذا توالون الأعداء والمستكبرين؟ لِمَ تخونون؟ لِمَ تمارسون الذنوب والمعاصي؟ فتشربون الخمر أو تلعبون القمار أو تعتدون على الناس؟ أو تسلبون حقوق الناس؟ لماذا أنتِ لا تتحجبين؟ لماذا تخرجين سافرة؟ بعض الناس عندما تطالبهم بالواجبات والمسؤوليات هذه يقولون لك: الإيمان في القلب، نوايانا صافية بريئة! المهم أن تكون نية الإنسان صادقة! ونحن نوايانا صافية وصادقة!! الله يعلمُ بقلوبنا!! هكذا يجيبون.. ليحاولوا من خلال ذلك أن يُبرئوا أنفسهم من المسؤولية, وأن يبرروا لانفسهم كل الأعمال السيئة التي يمارسونها في حياتهم، هؤلاء إيمانهم كلا إيمان, لا فائدة ولا جدوى منه ولا قيمة فيه، لأن معنى أن تكون مؤمناً أن تعيش في قلبك مبادئ الإيمان وعقائد الإيمان وأن تنطلق في حياتك العملية من خلال إيمانك, أن تعمل العمل الذي ينسجم مع إيمانك ومع نواياك الصافية لا أن تمارس الأعمال التي تتنافى مع إيمانك ومع نواياك الصادقة.

 الإيمان مثله كمثل مصباح في غرفة لو أضاءَ لغرفة لشعَّ نورُه من كل نوافذ الغرفة ومن كل أبواب الغرفة، ومصباح الإيمان كذلك لو أضاء قلب الإنسان وروح الإنسان وفكر الإنسان لسَطَع نورُه في كل حياة الإنسان، في عينه وأُذنه ولسانه ويده ورجله وفي كل حركاته وعلاقاته ومواقفه.

هذا هو وعي الإيمان, وهذا هو وعي العمل الصالح، وهذا كله في المقطع الاول من الآية: (وبشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات). هذا المقطع الذي يبشر الله فيه المؤمنين الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأن لهم جنات تجري من تحتها الأنهار. وأما الحديث عن النقطة الثانية في الآية: فهي التي أشار إليها المقطع الثاني في الآية اي قوله تعالى: (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا: هذا الذي رزقنا من قبل وأُتوا به متشابهاً ولهم فيها أزواجٌ مطهرة وهم فيها خالدون).

فهذا المقطع من الآية يشير إلى خصائص نعم الجنة فالخصوصية الأولى، أن نعم الجنة وبساتين الجنة تظهرُ عليها النضارةُ والنضجُ الكامل, وهي بساتينٌ لا يُصيبها جفافٌ، ولا تُهددها قلة ماءٍ، بل هي كالبساتين التي تمتلك ماء سقيٍ دائم ومستمر لا ينقطع أبداً، فتكون ثمارُها ناضجة ونضرة بصورة كاملة.

والخصوصية الثانية: إنه بعد الإشارة إلى ثمار الجنة المتنوعة تقول الآية: (كلما رزقوا منها من ثمرة رزقاً قالوا هذاا الذي رزقنا من قبل).

وقد ذكر المفسرون لهذا المقطع من الآية تفاسير متعددة:

قال بعض المفسرين: إن المقصود من قول أهل الجنة ( هذا الذي رزقنا من قبل) أنه عندما يؤتى بالثمار إلى أهل الجنة مرة ثانية، يقولون هذا الذي تناولنا من قبلُ في المرة الأولى، ولكنهم حينما يأكلون هذه الثمار يجدون فيها طعماً جديداً ولذةً أخرى. فالعنبُ أو التفاحُ الذي نتناولُه في هذه الحياة الدنيا مثلاً له في كل مرة نفسُ طعمِ المرة السابقة، أما ثمارُ الجنة فلها في كلِ مرةٍ مذاقٌ يختلفُ عن طعمها في المرة السابقة، وإن تشابهت أشكالها. وهذه من خصائص نعم الجنة ونعم العالم الآخر الذي يبدو أنه خالٍ من كل تكرار.

وقال مفسرون آخرون: إن المقصود من قول أهل الجنة (هذا الذي رزقنا من قبل) أنهم عندما يرون ثمار الجنة يجدونها شبيهة بثمار هذه الدنيا، فيقولون هذا الذي رزقنا من قبل أي في عالم الدنيا، ولكنهم عندما يتناولون هذه الثمار ويأكلونها يجدون طعماً جديداً لذيذاً يختلفُ عن طعم ثمار الدنيا وفاكهتها.

ثم تقول الآية: (وأُتوا به متشابهاً) أي متشابهاً من الجُودة والجمال، فهذه الثمار التي في الجنة هي بأجمعها فاخرة وناضجة وذات لون وطعم متشابه بحيث لا يمكن ترجيح إحداها على الأخرى, بخلاف ثمار هذا العالم التي تختلف في درجة النُضج والرائحة واللون والطعم.

والخصوصوية الثالثة: هي نعمة الأزواج المطهرة من كل سوء ومن كل عيب, مطهرة من سوء الروح ومن سوء القلب ومن سوء الجسد، ومما يُلفت النظر في هذه الآية أن الوصف الوحيد الذي استعمله القرآن لمدح الأزواج في جناتِ النعيم هو أنها (مطهرة) وهذا يشير ويوحي بأن أول شرطٍ في الزوجة هو الطُهرُ والعفة، وكلُ ما عدا ذلك من أوصاف وشروط في الزوجة فهو ثانوي.

وقد روي عن رسول الله (ص) أنه قال: "إياكم وخَضْراءَ الدِّمن, قيل يا رسول الله، وما خضراءُ الدمن؟ قال: المرأة الحسناء في منبت السوء". أي المرأة الجميلة التي نشأت وتربت على السوء.

والخصوصية الرابعة والاخيرة للجنة: هي أن النعم التي في الجنة خالدة ودائمة (وهم فيها خالدون)، فهي نعم لا تزول ولا تنقطع ولا تفنى، بخلاف نعم الدنيا فإنها زائلة لا بقاء ولا دوام فيها، والشيء الوحيد الذي يبقى في الدنيا ثم يرتفع إلى الله ولا يصيبه الفناء والزوال هو العمل الذي يكون لوجه الله وابتغاء مرضاة الله، وما عدا ذلك فهو زائل، أما الجنة والنعم التي فيها, فهي خالدة ودائمة.

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين