المنافقون يواجهون نداء الإيمان بالكبرياء والتوهين (17)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء ألا انهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلو إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن الله يستهزئ بهم ويمدهم في طغيانهم يعمهون أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين) 13/16.

لا يزال الحديث عن علامات وصفات المنافقين التي يفرزها مرض النفاق في أقوالهم وسلوكهم وأعمالهم، فقد كانت العلامة الأولى التي تحدثت عنها الآية السابقة أن المنافقين يفسدون في الحياة وفي العقيدة وفي السلوك وفي العلاقات تحت شعار وستار الصلاح والإصلاح, حتى يصوروا للناس بأنهم مصلحون وليسوا مفسدين. (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، ألا انهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).

والآيات التي قرأناها هنا تبين بقية خصائص المنافقين وعلاماتهم، فالعلامة الثانية من علامات المنافقين: هي أنهم يعتدون بأنفسهم، ويعتقدون انهم أصحاب عقل وفكر وعلم وتدبير، وأن المؤمنين سفهاء وبسطاء لا يملكون المستوى الفكري والعلمي الذي يملكونه، ولا يملكون الوعي والمعرفة والثقافة التي يملكونها.

ومن هنا فإنك عندما تدعوهم إلى الالتزام بخط الله وإلى الإيمان كما آمن الناس الواعون الطيبون الذين التزموا بأوامر الله ونواهيه، فإنهم يواجهونك بالكبرياء والعظمة, ويندفعون إلى احتقار الناس وتوهين الناس, ويجيبونك بأننا لا نؤمن مثل هذا الإيمان البسيط, لأنه إيمان السفهاء والبسطاء الذين لا يعرفون أن يميزوا بين ما ينفعهم وما يضرهم.

(وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس) أي آمنوا كما آمن الناس الذين التزموا مبادئ الإسلام وأحكام الإسلام في حياتهم، آمنوا كما آمن الناس الذين يؤكدون التزامهم بأوامر الله ونواهيه، آمنوا كما آمن الناس المجاهدين الذين يواجهون الطغاة والمستكبرين، آمنوا كما آمن الناس المضحون الذين يقاتلون المحتلين والغزاة ويرفضون الاستسلام للمستكبرين، (وإذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس) فما هو جوابهم؟ (قالوا أنؤمن كما آمن السفهاء) هل تريدون منا أن نؤمن إيمان السفهاء والبسطاء والفقراء؟! نحن نريد إيماناً من نوع آخر وإسلاماً من نوع آخر، إنهم يريدون إيماناً وإسلاماً على طريقتهم، إيماناً لا يتنافى مع مصالحهم وأطماعهم وشهواتهم وأهوائهم، فيحللون ما كانت مصلحتهم في تحليله ويحرمون ما كانت مصلحتهم في تحريمه.

إنهم يقولون ذلك: لا نريد إسلام السفهاء, هؤلاء الذين يقفون في خط المواجهة للاستكبار وللاحتلال ولكل القوى الظالمة، هؤلاء الذين لا يجعلون الناس يرتاحون في بيوتهم وفي حياتهم، نحن لا نريد إسلاماً كإسلام السفهاء يتدخل في حريات الناس ليمنع الناس من أن يشربوا الخمر أو يلعبوا القمار أو يكون جواسيس للأعداء أو متعاونين معهم، لا نريد إسلاماً كإسلام البسطاء يتدخل في حياة الناس ليمنع الناس من أن يزنوا أو يسرقوا أو يخونوا أو يوالوا الكافرين والمستكبرين، إن هذا الإسلام الذي يتدخل في حريات الناس هو إسلام السفهاء! ونحن نريد إسلاماً وإيماناً لا يتدخل في حرية الناس، نريد إسلاما ًعاقلاً مهذباً على طريقة إسلام الملوك والرؤساء والسياسيين والشخصيات الاجتماعية والثقافية! نريد إيماناً لا يتحدى الواقع الفاسد ولا يواجه الاستكبار ولا يدخل في معركة مع الاحتلال! نريد إسلاماً يحقق لنفسه سلاماً على حساب قيمه ومبادئه وعلى حساب واقعه! هذا هو منطق المنافقين، منطق الذين تنقلب المقاييس عندهم، منطق الذين يعتبرون الإنصياع لإسلام الحق والعدل والحرية والعزة بساطة! ويرون اتباع خط الإيمان والرسالة والالتزام بأحكامها ومفاهيمها سفاهة! بينما يرون شيطنتهم وازدواجيتهم تعقلاً وفكراً ووعياً! ولكن الحقيقة عكسُ ذلك.. الله تعالى يقول في جواب منطق هؤلاء المنافقين: (ألا إنهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون). المنافقون هم السفهاء وليس المؤمنين, لأن السفيه هو الذي لا يستطيع أن يميز بين الخير والشر وبين ما ينفعه وما يضره، السفيه هو ضعيف الرأي, هو الجاهل الذي لا يملك معرفة بمواضع المنافع والمضار.

والمنافقون نتيجة ضعفهم الفكري وجهلهم بحقائق الإيمان والإسلام وبالاسس المتينة التي ترتكز عليها عقيدة الإيمان ومفاهيم الإيمان وأحكام الإسلام، ونتيجة عدم تمييزهم بين الخير والشر وبين ما ينفع وما يضر، هم يلتزمون الإسلام بالاسم وبالشكل ظاهرا ويبطنون الكفر في أعماقهم وداخلهم، حتى يكيدوا للإسلام ويتآمروا عليه، السفهاء هم هؤلاء الذين يعيشون الازدواجية في الشخصية والموقف، ويعيشون العذاب والقلق الداخلي النفسي، لأنهم يخافون من انكشاف حقيقتهم وواقعهم الذي يغطونه بسلوكهم الإسلامي الظاهري. (ألا انهم هم السفهاء ولكن لا يعلمون).

وأما العلامة الثالثة للمنافقين: فهي انهم يتلونون بألوان معينة حسب مصالحهم، فهم يظهرون الإيمان أمام المؤمنين ويعملون عمل المؤمنين فيدخلون المساجد ويصلون ويصومون ويمارسون شعائر الإسلام ويعلنون للمؤمنين بأنهم منهم، ليحصلوا على ثقة الناس واطمئنان الناس، كي يستطيعوا أن ينفذوا إلى داخل مجتمع المؤمنين ويحققوا أهدافهم الشريرة، ولكن عندما يذهبون إلى جماعاتهم الشيطانية، ويختلون بهم يؤكدون لهم أنهم معهم وأن ولاءهم للمؤمنين ظاهري هدفه الاستهزاء والسخرية (وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزؤن).

وقد نجد أمثال هذه النماذج في كثير من الأشخاص الذين يرتبطون وينتمون إلى تيارات سياسية وغير سياسية وإلى دوائر مخابراتية وغير ذلك، فنجد أن بعض الأشخاص من هؤلاء عندما يلتقون بالمؤمنين وبالتيارات الإيمانية والجهادية يظهرون تعاطفهم وتعلقهم من أجل أن ينفذوا إلى حياة المؤمنين وإلى داخل حركتهم, حتى يحققوا الأهداف التي تتنافى مع مصلحة المؤمنين، أو من أجل أن يصلوا إلى أطماعهم الشخصية ومصالحهم الذاتية، ولكن إذا ذهبوا إلى مجالسهم الخاصة، وبعد أن يرجعوا إلى جماعاتهم, يظهرون السخرية والاستهزاء بالمؤمنين وبحركتهم وبأعمالهم وأهدافهم.

ولكن الله عز وجل يواجه هؤلاء ويقول: (الله يستهزئ بهم) يستهزئ بهم عندما يُخيل لهم أن نفاقهم وحيلتهم قد انطلت على المؤمنين وأن شخصيتهم المزدوجة لم تنكشف لهم, فالله تعالى يجازيهم جزاء المستهزئ . "كما ورد عن الإمام الرضا (ع) في تفسير هذه الجملة من الآية حيث قال (ع): إن الله لا يستهزئ ولكن يجازيهم جزاء الاستهزاء".

(ويمدهم في طغيانهم يعمهون) أي يتحيرون, فالله تعالى يقول لهم: سيروا في هذا الطريق, ويفسح لهم المجال, ولكن في النهاية سينكشف أمرهم وسوف يواجهون خزي الدنيا وخزي الآخرة (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين).

فالذين يعتبرون أن النفاق شطارة ودهاء وذكاء هؤلاء واهمون، والذين يعتبرون أن النفاق تجارة رابحة يستطيع الإنسان أن يصل إلى أطماعه ومصالحه من خلالها، ويستطيع أن يعيش من خلالها, هم مخطئون، لأن هذه التجارة هي تجارة خاسرة لا ربح فيها ولا كرامة فيها. أتركوا هذه التجارة التي يدلكم عليها الشياطين، وعودوا الى الله وإلى الالتزام بخط الله وحده وخط المجاهدين, فإنها التجارة الرابحة التي لا تبور.

يقول تعالى: (هل أدلكم على تجارة تُنجيكم من عذاب أليم، تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلك خير لكم إن كنتم تعلمون) الصف10/11.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين