المنافقون: ازدواجية الشخصية والموقف (14)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين، يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون).

بعد أن بين القرآن في الآيات السابقة صفات وخصائص المؤمنين ثم صفات وخصائص الكافرين، أراد أن يبين في هذه الآيات والآيات التي بعدها، الخصائص الروحية للمنافقين.

فالمنافقون: هم الذين يعيشون ازدوجية الموقف بين ما يُضمرونه في داخل أنفسهم وبين ما يُظهرونه أمام الناس، فموقفهم الداخلي الباطني من قضية الإيمان والإسلام هو الكفر، وموقفهم الظاهري المعلن أمام الناس هو الإيمان، فهم يُظهرون الإيمان ويبطنون الكفر.

ومن هنا فإن هذه المجموعة ذات شخصيتين، شخصية إسلامية متلزمة أمام المسلمين, وشخصية معادية للإسلام أمام أعداء الإسلام، ولكن طبعاً شخصيتهم الأصلية هي الكفر وإن تظاهروا بالإسلام والإيمان.

الإسلام عايش هذه المجموعة في عصره الأول، حيث كانت نافذة ومتغلغلة في صفوف المسلمين وفي داخل المجتمع الإسلامي، وكان المنافقون يشكلون خطراً كبيراً على الإسلام والمسلمين، وقد عانى الإسلام من كيدهم ومكرهم وتضليلهم وتخريبهم ومؤامراتهم ما لم يعانيه من المشركين، وقد ساهموا بشكل كبير في عملية إرباك الحياة الإسلامية وحركة الدعوة وحركة المجتمع الإسلامي.

ولأن المنافقين يتلونون بألوان معينة فيُظهرون شيئاً ويُبطنون شيئاً آخر ويحاولون أن يُخبئوا شخصيتهم الحقيقية, كان اكتشافهم ومعرفتهم وتشخيصهم عملية معقدة وصعبة، ولذلك فإن القرآن اهتم بكشف أمرهم اهتماماً بالغاً، وبين بدقة مواصفاتهم، وأعطى للحديث عنهم وعن علاماتهم وخصائصهم في هذه السورة مساحة واسعة لم يعط مثلها للحديث عن صفات المؤمنين أو خصائص المنافقين, وذلك ليسهل علينا معرفتهم, من أجل أن نحذر منهم ونتخلص من ضررهم في الحاضر والمستقبل.

(ومن الناس من يقول آمنا بالله واليوم الآخر وما هم بمؤمنين).

هذه الآية تشير إلى إحدى صفات المنافقين، وهي أن ما يقولونه لا ينسجم مع ما يعتقدونه فهم يقولون كلمة الإيمان ويُطلقون شعار الإيمان، فيعلنون أمام الناس أنهم مؤمنون بالله ومعتقدون باليوم الآخر، ويعلنون اعترافهم بالإسلام والتزامهم بأحكامه, ولكن الحقيقة هي انهم ليسوا بمؤمنين، فلا هم يعتقدون بما يقولون ويُظهرون, ولا هم ملتزمون بالإسلام وبأحكام الإسلام كما يلتزم المؤمنون بذلك، وإنما يعلنون كلمة الإيمان وشعار الإسلام أمام الناس، من أجل ان يحصلوا على ثقة الناس بهم، وحتى يتمكنوا من التغلغل في صفوف المؤمنين, ومن أجل أن يتحركوا بحرية في داخل مجتمع المؤمنين في مجالات التآمر والدّس والتضليل.

والصفة الأخرى للمنافقين هي المكر والخِداع، وهذا ما أشارت إليه الآية الثانية: (يخادعون الله والذين آمنوا وما يخدعون إلا أنفسهم وما يشعرون).

والخدع بمعنى المكر وهو: أن تظهر شيئاً وتخفي خلافه، مثلاً: تظهر المحبة للآخرين ولكنك تخفي الحقد والعداء لهم، تتظاهر بالإحسان إلى الآخرين إلا أن باطنك هو الإساءة إليهم، تُفهم الغير ظاهراً بأنه لا هدف ولا غاية لك معه أو أن هدفك الخير والصلاح له ولكنك في الخفاء تنصب له فخاً وكميناً ليقع فيه، هذه المظاهر والأمثلة كلها من الخِداع والمكر وهو من أقبح وشر الصفات.

المنافقون يتعاملون مع الله ومع المؤمنين تعامل المخادع الذي يُظهر الإيمان والالتزام، ويُبطن الكفر والضلال، هم يعملون عمل المخادع الذي يريد أن يصل إلى أهدافه وغاياته بطريقة خفية لا يشعر بها المخدوع, فهم يحاولون أن يخدعوا الله وأن يخدعوا الآخرين من المؤمنين من خلال هذه الاساليب التي يتبعونها ليحصلوا على ثقة الناس بهم واطمئنان الناس بإيمانهم وصلاحهم، ليتمكنوا بالتالي من تمرير مؤامراتهم ولكن جهودهم تذهب هباءاً لأنهم لا يخدعون إلا أنفسهم, لان الله يعلم خديعتهم ومكرهم وهو الذي يعلم خائنة الاعين وما تخفي الصدور.

هم في الحقيقة يخدعون أنفسهم عندما يصوروا لأنفسهم أنهم ينجحون من خلال هذه الأساليب المتلوية, وهم يخدعون أنفسهم عندم يُوحون إلى أنفسهم أنهم نجحوا في تمرير مكرهم وخديعتهم، ولم يلتفتوا إلى أن الله يعلم بكل أهدافهم ومكرهم لأنه يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور, وأنه يكشف واقعهم وحقيقتهم للمؤمنين ليحذروا منهم وليحبطوا خديعتهم.

وبعبارة أخرى: الانسان الذي يكون له وجهان ولسانان ولونان, وظاهرٌ جميل وباطن قبيح, هو إنسان مخادع, والمخادعة تارة تكون مع الله وتارة أخرى تكون مع الناس.

والشيء الذي نستفيده من الآية المتقدمة، أن التعامل مع الله بالمكر والخديعة، ومخادعة المؤمنين بإظهار شيء أمامهم وإخفاء خلافه هو عملٌ محرمٌ يُعرض صاحبه للنفاق.

والإنسان المخادع ليس هو الذي يُظهر الإيمان أمام المؤمنين ويبطن الكفر فقط, بل كل إنسان يخادع الله, فإن أسوأ موارد ومراتب مخادعة الله هي مخادعة المنافقين لله هؤلاء الذين يمارسون الخديعة بإظهار الإيمان، وإخفاء الكفر والضلال، ولكن لمخادعة الله موارد أخرى.

الإنسان الذي يرائي في العبادة مثلاً هو إنسان يتصرف مع الله تصرف المخادع, فأنت عندما تتظاهر في عبادتك بأنك تطيع الله وتخشع لله ولكنك في داخل قلبك تريد غير الله, تريد أن يراك الناس، وأن يمدحك الناس، وان يسمع بك الناس، فهذا نوعٌ من التعامل مع الله بالمكر والخديعة وأساس ذلك هو النفاق.

فقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق (ع): الرياءُ شجرة لا تثمر إلا الشِرك الخفي وأصلها النفاق.

وفي حديث آخر أن الإمام الصادق (ع) سُئل بما النجاة غداً؟ أي بأي شيء ينجو الإنسان من العذاب يوم القيامة؟؟

فقال (ع): إنما النجاة في أن لا تخادعوا الله، فإنه من يخادع الله يخدعه ويخلع منه الإيمان، ونفسه يخدع لو يشعر، فقيل له: كيف يخادع الله؟؟ فقال (ع): يعمل بما أمر الله عز وجل به ثم يريد به غيره، فاتقوا الله، واجتنبوا الرياء فإنه شِرك بالله عز وجل، إن المرائي يُدعى يوم القيامة بأربعة أسماء: يا كافر، يا فاجر، يا غادر، يا خاسر، حبِط عملك، وبطلَ أجرُك ولا خلاق لك اليوم، فالتمس أجرك ممن كنت تعمل له.

وأما مخادعة الناس فتكون بأن تظهر أمام الناس شيء وتُبطن وتخفي شيئاً آخر. مثلاً: الإنسان الذي يتعاطى مع الآخرين بوجهين وبلسانين, يتحدث أحاديث مختلفة, ويتلون بألوان مختلفة، مثلاً يعترف بشيء ثم ينكره بعد ذلك، أو يشهد على شيء ثم يظهر خلافه بعد ذلك، أو يمدح شخصاً مثلاً في حضوره، ولكنه في غيابه يطعن به ويتكلم عليه، فهذا ذو وجهين وذو لسانين وهو إنسان مخادع أيضاً.

ذو الوجين وذو اللسانين هو الذي يبني علاقة بين عدوين ثم يتكلم مع كل واحد منهما بلسان يوافقه ويرضيه وهذا عين النفاق والخداع.

 الإنسان الذي يُظهر لك الحب والاحترام والتقدير ولكنه يضمر لك العداء والسوء هو إنسان مخادع.

الإنسان الذي يتظاهر أمامك بأنه يحب الخير لك ويعمل من أجل مصلحتك ولكن في الخفاء يريد الشر بك والإضرار والإساءة إليك هذا إنسان مخادع.

ومن المخادعة أيضاً أن تتعامل مع الناس بالغش مثل: أن تخلط البضاعة  الجيدة بالبضاعة الرديئة, ثم تبيعها على أساس أنها من النوع الجيد.

عن الإمام الباقر (ع): أن النبي (ص) مرَّ في سوق المدينة بطعام، فقال لصاحبه ما أرى طعامك إلا طيباً، وسأله عن سعره، فأوحى الله عز وجل أن يدخل يده في الطعام، ففعل النبي (ص) ذلك، فاخرج طعاماً رديئاً وفاسداً، فقال لصاحبه: ما أراك إلا وقد جمعت خيانةً وغشاً للمسلمين.

والبيع بغلاء مخادعة للناس ايضاً، فإذا غبنت المشتري بالثمن وخدعته فيه, بمعنى أنك بعته شيئاً بثمن أغلى من ثمنه المتعارف وهو لا يعرف ذلك, فهذا خدِاع.

 فقد ورد: أن غَبْنَ المؤمن حرام.

والخلاصة: إن مخادعة الناس في كل هذه الموارد هي عملٌ محرم وهي من النفاق. وقد توعد الله عز وجل المخادع والماكر بالنار, فقد ورد عن رسول الله (ص): من كان مسلماً فلا يمكر ولا يخدع، فإني سمعت جبرئيل يقول: إن المكر والخديعة في النار.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين