محاضرة في ذكرى المبعث النبوي الشريف بعنوان المبعث النبوي وعوامل انتصار الإسلام

لقد أعد الله نبيه محمداً(ص) وهيأه لحمل الرسالة وإداء الأمانة وإنقاذ البشرية على امتداد السنوات الأربعين التي سبقت البعثة النبوية الشريفة، وحين بلغ النبي (ص) الأربعين من عمره الشريف اختاره الله رسولا وهادياً ورحمة للناس جميعاً  (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا ونبينا وحبيب قلوبنا وشفيع ذنوبنا أبي القاسم محمد بن عبد الله وعلى آله الطيبين الطاهرين.

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: بسم الله الرحمن الرحيم (هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين).

في أجواء المبعث النبوي الشريف وذكراه العطرة نرفع إلى صاحب العصر والزمان (عج) وإلى ولي أمر المسلمين آية الله العظمى السيد علي الخامنئي (دام ظله الوارف) وإلى أبطال المقاومة الإسلامية في لبنان وفلسطين وإلى الأمة الإسلامية جمعاء وعموم المستضعفين في العالم أسمى آيات التهنئة والتبريك سائلينا الله عز وجل أن يجعل من هذه الذكرى دافعا وحافزا لنا جميعا للتمسك بالقيم والمفاهيم والأخلاق والمبادئ الإلهية والإنسانية التي جاء بها رسول الله محمد (ص).

لقد أعد الله نبيه محمداً(ص) وهيأه لحمل الرسالة وإداء الأمانة وإنقاذ البشرية على امتداد السنوات الأربعين التي سبقت البعثة النبوية الشريفة، وحين بلغ النبي (ص) الأربعين من عمره الشريف اختاره الله رسولا وهادياً ورحمة للناس جميعاً  (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين).

والمروي عن أئمة أهل البيت (ع): أن رسول الله (ص) بعث بالإسلام في السابع والعشرين من شهر رجب بعد عام الفيل بأربعين سنة أي سنة 610 ميلادية.

وقد بدأ نزول الوحي عليه (ص) بواسطة ملك من ملائكة الله هو جبرائيل الأمين (ع) في غار حراء ، وهو كهف صغير في أعلى جبل حراء في الشمال الشرقي من مكة. كان النبي (ص)  يتعبد فيه لله على النحو الذي ثبتت له مشروعيته وكان قبل ذلك يتعبد فيه جده عبد المطلب.

وتفيد الروايات أن أول آيات قرأها جبرائيل على النبي (ص) هي قوله تعالى في سورة العلق:(إقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم).

وبعد تلقينه هذا البيان الإلهي، عاد النبي (ص) إلى أهله وزوجته مستبشراً مسروراً فرحاً بما أكرمه الله من النبوة والرسالة، ومطمئنا إلى الدور والمهمة التي شرفه الله بها، فلم يكن خائفا أو مترددا أو قلقا أو مرعوبا مما جرى له، بل كان عالما بنبوة نفسه وكان ينتظر اللحظة التي يأتيه فيها جبرائيل ليعلن نبوته ورسالته، فلما دخل على زوجته خديجة أخبرها بما أنزل الله عليه ، وما سمعه من جبرائيل فقالت له: إبشر فوالله لا يفعل الله بك إلا خيراً، وابشر فإنك رسول الله حقاً.

وقد سئل الإمام الصادق (ع): كيف لم يخف رسول الله (ص) فيما يأتيه من قبل الله أن يكون مما ينزع به الشيطان؟.

فقال (ع) إن الله إذا اتخذ عبداً رسولاً أنزل عليه السكينة والوقار، فكان الذي يأتيه من قبل الله مثل الذي يراه بعينه.

وهكذا .. انتشر خبر نزول الوحي الإلهي على النبي (ص) في وسط البيت النبوي ... فبادر عدد من الذين وصلهم الخبر إلى تصديق النبي (ص)والإيمان برسالته، ويوصف الذين بادروا إلى الإيمان بـ السابقين، وقد اعتبر السبق إلى الإسلام امتيازا ومعيارا للفضل والكرامة وعلو المنزلة..

وقد اتفق المؤرخون والمحدثون على أن علي بن أبي طالب (ع) هو أول الناس إسلاماً وإيماناً وتصديقاً برسول الله (ص)  وكان عمره إنذاك عشر سنوات أو إثنتي عشرة سنة.

ومن المسلمات التاريخية أيضا أن خديجة بنت خويلد زوجة النبي الأولى، كانت أول إمرأة آمنت وصدقت برسول الله (ص) في اليوم الثاني من مبعثه، وما على وجه الأرض أحد يعبد الله على هذا الدين إلا النبي (ص) وعلي بن أبي طالب (ع).

وقد حدثنا علي (ع) عن هذه الأجواء فقال (ع) وهو يصف حاله مع رسول الله (ص): (ولقد كنت أتبعه اتباع الفصيل أثر أمه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالإقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول الله وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي وأشم ريح النبوة..).

ومهما يكن من أمر فقد بُعث النبي (ص) بالإسلام في مجتمع قبلي معقد ومشرذم، توافرت فيه كل أنواع الضلال والفساد والانحطاط والبعد عن الأخلاق والقيم..

ومن قلب مجتمع متردٍ، خرج رسول الله (ص) ليكون رسول رب العالمين إلى الناس جميعاً يتلو عليهم آياته ويعلمهم الكتاب والحكمة، وليكون قائد عملية التغيير الشاملة بالوحي الإلهي وبالرعاية الربانية وعلى أساس الهدى والحق والصدق والطهر والعفاف.

وقد استطاع هذا الرسول العربي الأمي في فترة وجيزة جداً، وفي زمن قياسي أن ينقل هذه الأمة من حضيض الذل والمهانة إلى أوج  العظمة والعزة والكرامة. وأن يغرس في هذه الأمة شجرة الإيمان والإسلام التي من شأنها أن تغير فيها كل عاداتها ومفاهيمها الجاهلية، وأن تقضي على كل أسباب شقائها ومعاناتها وآلامها.

لقد استطاع الإسلام في فترة لا تتجاوز سنواتها عدد أصابع اليدين، أن يحقق أعظم إنجاز في منطقة يسود فيها الجهل وينعدم فيها القانون وتسيطر عليها الحروب والقسوة والفاحشة وكل مظاهر التخلف والانحطاط.

لقد استطاع الإسلام أن يحدث انقلاباً حقيقياً وجذرياً في عقلية ومواقف وسلوك وأخلاق وقيم تلك الأمة المشرذمة وفي عقائدها ومبادئها ومفاهيمها، وأن ينقلها من العدم إلى الوجود ومن الموت إلى الحياة.

وقد عبر عن ذلك جعفر بن أبي طالب لملك الحبشة عندما وقف أمامه، شارحاً له أوضاع الأمة قبل مبعث النبي (ص)وأوضاعها بعد أن بعث النبي (ص) فيما يشبه المقارنة بين واقعين عاشتهما الأمة قبل مبعث النبي (ص) وبعد مبعث النبي (ص)، حيث قال رضوان الله عليه:

كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف... فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً منا، نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وأباؤنا من دونه ومن الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وإداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة ...

والخلاصة: أن النبي (ص) استطاع في فترة وجيزة أن يخترق الواقع العربي والإنساني، وأن يحدث تغييرا جذريا فيه في مفاهيمه وعاداته وفي أخلاقه وسلوكه، وأن يدخل إلى قلوب وعقول الناس ويؤثر فيها وأن ينتصر وتنتشر رسالته بالرغم من كل التحديات التي واجهته وواجهت دعوته وحركته ورسالته.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو:

ما هي العوامل والظروف التي أدت وساعدت على انتصار الإسلام وانتشاره بهذه السرعة القياسية؟

ما هي الأسباب التي جعلت من النبي (ص) ورسالته يدخلان إلى قلوب وعقول الناس في هذه الفترة الوجيزة؟

ما الذي جعل النبي (ص) ينتصر في صراعه المرير مع قوى الشر والضلال والفساد من المشركين واليهود لتكون النتيجة هزيمة المشركين وهزيمة اليهود أمام حركة النبي (ص) ودعوته ورسالته؟

الحقيقة أن هناك عدة عوامل ساعدت على انتصار الإسلام وانتشاره في فترة وجيزة نذكر هنا بعضها بشكل سريع.

أولاً: نوع معجزة الرسول الأعظم النبي (ص) وهي هذا القرآن الكريم الذي حير العرب ليس بما تضمنه من قيم وعلوم ومعارف وقوانين عامة وشاملة فقط، وإنما بما اشتمل عليه من بلاغة وفصاحة وبيان وإيجاز حتى استطاع بذلك أن يقهر العرب ويبهرهم فيما كانوا يعتبرون انفسهم ويعتبرهم العالم بأسره قمة فيه وهو البلاغة والفصاحة.

لقد عجز العرب عن مواجهة التحدي الذي اطلقه القرآن في أكثر من مناسبة للاتيان بمثله بمثل فصاحته وبلاغته ومنطقه ومضمونه.

نعم .. لقد بهرهم هذا القرآن وحيرهم ولم يترك لهم مجالاً للخيار فإما الجحود على علم ومعرفة (وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم) وأما الإيمان والتسليم بأنه من عند الله وأنه الحق الذي لا ريب فيه.

ثانياً: الحالة الروحية والاجتماعية والأخلاقية المتردية التي كانت سائدة في المجتمع العربي انذاك، حيث كان الناس يعيشون حياة البؤس والشقاء والضياع، وكان القوي يأكل الضعيف، وكانت حالات السلب والنهب والإغارة والتعصب القبلي هي المسيطرة على الواقع بل كانت من مميزات ذلك المجتمع، حتى إذا لم تجد القبيلة من تغير عليه من اعدائها أغارت على اصدقائها، وذلك الضياع الذي كان يهيمن عليها، قد هيأ الإنسان الجاهلي المسحوق نفسيا والفارغ عقائديا وروحيا لقبول الحق الذي جاء به النبي (ص) والتفاعل معه، وجعله يتطلع إلى الإسلام على أنه الأمل الوحيد الذي يستطيع أن يخفف من شقائه وآلامه وينقذه من واقعه المزري والمهين ذاك.

ثالثاً: الفراغ السياسي الذي كانت تعيشه  المنطقة آنذاك، حيث أن سكان شبه الجزيرة العربية في تلك المرحلة لم يخضعوا لآي نظام أو سلطة مركزية غير سلطة القبيلة. ولأسباب عديدة بقيت هذه المنطقة بعيدة عن سيطرة ونفوذ الدول الكبرى آنذاك كدولة الفرس ودولة الرومان. مما ساعد الإسلام على الدخول إلى المنطقة دون أي منافس سياسي على هذا المستوى.

رابعاً: بشائر اليهود والنصارى بمحمد (ص) وتنبؤهم بقرب ظهور نبي في المنطقة العربية كان قد سهل هو الآخر قبول دعوة النبي (ص) وانتشار رسالته فقد اطلق الإنجيل وكذلك التوراة بشارات كثيرة بمحمد (ص)بحيث أصبح أهل الكتاب يعرفون محمداً(ص) كما يعرفون ابناءهم، وكان اليهود يتوعدون العرب الوثنيين ويقولون لهم: ليخرجن نبي فيكسرن اصنامكم. وقد سمى جماعة أبناءهم محمداً رجاء أن يكون النبي المنتظر، كل ذلك ساهم في تحضير الإنسان العربي للفجر الجديد، وهيأ الأجواء نفسيا ومعنوياً لتقبل دعوة النبي (ص). وبسبب وزن أهل الكتاب علميا عند العرب في الجاهلية فقد اكتسبت هذه التنبؤات والبشارات بمحمد (ص) بعداً حقيقيا انعكس قبولا للدعوة واستجابةً لها.

خامساً: خصائص شخصية رسول الله (ص) وصفاته ومميزاته الذاتية الروحية والأخلاقية والقيادية كانت أحد أهم العوامل التي ساعدت على انتصار الإسلام أيضاً ودخول النبي (ص) بقوة إلى قلوب وعقول الناس.

فصاحب هذه الدعوة ليس شخصاً عادياً هو محمد بن عبد الله من قبيلة قريش أعظم قبائل العرب حضوراً وقوةً ونفوذاً.

وهو بالأخص من البيت الهاشمي الذي يمتاز بالنزاهة والطهارة وله السيادة والزعامة في مكة، وله الشرف الرفيع الذي لا يدانيه ولا ينازعه فيه أحد.

وهو ذلك الرجل الذي كان مجتمعه والعرب يعرفون نسبه وصدقه وأمانته وعفافه حتى لقد لقب بالصادق الأمين.

وهو الذي كان معروفا لدى قريش وغيرها برجاحة عقله وقوة حكمته.

إن كل ذلك وضع قريشا وسائر الناس أمام الأمر الواقع، فكان كل من يحاول تكذيب النبي، يجد نفسه أمام صراع داخلي ووجداني، لأن وجدانه وضميره كان يقول له أنت الكاذب الحقيقي وهو الصادق الأمين. وهو موضع الثقة المطلقة وأنت مظنة الخيانة، وهو صاحب الرأي والتدبير والعقل الكبير وأنت القاصر المقصر.

   ثم هناك إصراره وصبره وثباته وتحمله لكل المشاق والأذى، ورفضه لكل المساومات والتسويات حتى أنهم لو وضعوا الشمس في يمينه والقمر في شماله على أن يترك هذا الأمر ما تركه.

   إن ثباته وإصراره على مواصلة مشروعه ومواجهة لكل مواقع التحدي كان له الأثر الكبير في ظهور دعوة النبي (ص) وانتصارها أيضاً.

   ثم هناك سيرته وأخلاقه وسلوكه الفردي والاجتماعي. الذي كان أيضا أحد أهم عوامل استقطاب الناس إليه وإلى رسالته وجذبهم إلى طريق الايمان .

   فقد امتازت شخصية رسول الله بالأخلاق الإنسانية السامية وحسن معاشرة الناس ومعاملتهم بالرفق واللين والرحمة والعفو والتسامح والتواضع والترفع عن إساءاتهم وتجاوزاتهم.

   وقد روى الامام علي (ع) لنا جانباً من هذه السيرة العطرة فقال:

    كان رسول الله (ص) دائم البشر، سهل الخلق، لين الجانب، ليس بفظ ولا غليظ ولا صخاب ولا فحاش ولا عياب ولا مداح.

   وكان يخاطب قومه ويقول: يا بني عبد المطلب انكم لن تسعوا الناس بأموالكم فالقوهم بطلاقة الوجه وحسن البشر.

    يقول علي ((ع) أيضا في وصف رسول الله (ص) وسلوكه (كان أجود الناس كفاً، وأجرأ الناس صدراً، وأصدق الناس لهجة، وأوفاهم ذمة، وألينهم عريكة وأكرمهم عشرة، ومن رأة بديهة هابه ومن خالطه فعرفه أحبه، لم أر مثله قبله ولا بعده).

وكان شديد المداراة للناس حتى قال (ص): أعقل الناس أشدهم مداراة للناس وأذل الناس من أهان الناس.

خامساً: صمود أصحابه وثباتهم في مواجهة الضغوط النفسية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وتحملهم للآلام وصبرهم على التعذيب والجوع والحصار والاضطهاد بمختلف أنواعه ثم اندفاعهم للجهاد والتضحية والشهادة بكل قوة وشجاعة وشوق وعشق من أجل الدفاع عن عقيدتهم ووطنهم وكيانهم، وطاعتهم المطلقة لرسول الله وانضباطهم التام في إطار التكاليف التي كان يحددها لهم. كل ذلك ساهم أيضا في امتداد الإسلام وانتشاره.

قال تعالى: محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم، تراهم ركعاً سجداً يبتغون فضلاً من الله ورضوانا، سيماهم في وجوههم من اثر السجود وذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل.

لقد كان هذا السلوك النبوي المحمدي الأصيل وتلك الأخلاق والخصائص النبيلة التي توافرت في شخصية رسول الله (ص) وفي أصحابه أحد أهم العوامل التي ساعدت على انتصار الإسلام وقبول دعوة النبي (ص) والإقرار بصدقه وصدق رسالته. (ولكم في رسول الله أسوة حسنة)

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.