تدوين العقود المالية والتجارية (11)

الشيخ دعموش في الحديث الرمضاني 23-6-2016: الدقة فيتنظيم العقود يحفظ الحقوق ويحقق العدالة ويمنع الإلتباس والإرتياب.﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْن إِلَى أَجَل مُّسَمّىً فَاكْتُبُوهُ, وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبُ بِالْعَدْلِ, وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللهُ, 

فَلْيَكْتُبْ وَلُْيمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ, وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً,فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أوَْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ , فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ, وَاسْتَشْهِدُواْ شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُم,ْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَآءِ, أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إحْدَاهُمَا الاُْخْرَى, وَلاَ يَأْبَ الشُّهَدَآءُ إِذَا مَادُعُوا , وَلاَ تَسْئَمُواْ أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجلِهِ , ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَـادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُواْ, إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَـارَةً حَاضِرةً تُدِيرُونَهَا بَيْنُكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا , وَأشْهِدُواْ إِذَا تَبَايَعْتُمْ , وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَشَهِيدٌ , وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقُ بِكُمْ , وَاتَّقُواْ اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلّ ِ شَىْء عَلِيمٌ﴾

 

  

يضع القرآن الكريم في هذه الآية التي هي أطول آيات القرآن تعليمات وقواعد وأصول دقيقة لتنظيم العلاقات والروابط المالية والتجارية والإقتصادية،من أجل أن تنمو رؤوس الأموال بشكل طبيعي, وللحؤل دون وقوع خلافات ومنازعات ومشكلات مالية وتجارية بين الناس.

 فإن عدم التقيد بأصول التعامل الشرعي والأخلاقي في المعاملات المالية والتجارية بات يسبب الكثير من الأزمات والخلافات بين المؤمنين.

وهذه الآية تضع العديد من التعليمات التي تنظّم الشؤون المالية، نذكر أهمها:

1- إذا أقرض شخص شخصاً أو عقد صفقة لها طابع مالي أو تجاري، بحيث كان أحدهما مديناً، فلكي لا يقع أيّ سوء تفاهم واختلاف في المستقبل، يجب أن يكتبوا بينهما عقداً يتضمن كل التفاصيل والشروط والبنود التي يحتاجها الطرفان (يا أيّها الذين آمنوا إذا تداينتم بدَين إلى أجل مسمّى فاكتبوه).فقد أراد الله أن يكتب العقد بشكل موثّق لا يدع مجالاً للالتباس والإنكار.

اليوم كثير من الخلافات والنزاعات المالية والتجارية ناشئة من عدم تدوين وكتابة العقود والإتفاقات المالية, مما بات يتسبب بتضييع الحقوق وعدم القدرة على إثباتها

 و"الدَين" في الآية ليس بمعنى القرض فقط، بل هو يشمل كلّ معاملة مالية او تجارية، مثل البيع والشراء ووالشراكة والمصالحة والإيجار وأمثالها، بحيث إنّ أحد الطرفين يصبح مديناً للطرف الآخر.

وعليه فهذه الآية تشمل جميع المعاملات التي فيها دَين يبقى في ذمّة المدين، بما في ذلك القرض.

طبعاً القروض والديون المتوجبة على الإنسان يجب أداؤها وعم المماطلة في ذلك كما يفعل البعض, حيث نجد البعض يتهرب من سداد الديون التي عليه وهو قادر على السداد وموسر وليس معسر, يتهرب إما من أجل أن يستولي على الدين بعدما ييأس الدائن, وإما ليستفيد من المال الى أقصى مدة ممكنة في تجاراته وفي شؤونه الخاصة وهذا غير جائز من الناحية الشرعية.

الدين مسؤولية وهو حق في الذمة يجب الوفاء به وإبراء الذمة منه. ولذلكونظراً لأهميّة أداء الدَّين روى معاوية بن وهب أنه قال للإمام الصادق (عليه السلام): أنّه ذُكر لنا أنّ رجلاً من الأنصار مات وعليه دينارانِ دَيناً، فلم يُصلِّ عليه النبيُّ(ص)( وقال: « صَلُّوا على صاحبكم » حتّى ضَمِنها عنه بعض قرابته فهل حقاً فعل النبي(ص) ذلك؟

فقال أبو عبدالله (عليه السلام): « ذلك الحقّ »، ثمّ قال: « إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) إنّما فعل ذلك ليتّعظوا, ولِيردّ بعضهم على بعض، ولئلاّ يستخفّوا بالدَّين.  

2- لكي يطمئن الطرفان على صحّة العقد ويأمنا احتمال تلاعب أحدهما فيه، ومنعاً لأي خلافات مستقبلية فيجب أن يكون الكاتب للعقد شخصاً ثالثاً (وليكتب بينكم كاتب بالعدل).أي أن يكتب الحق.وعليهأن لا يمتنع عن كتابة العقد، بل عليه أن يساعد طرفي المعاملة في هذا الأمر الإجتماعي (ولا يأبَ كاتب أن يكتب كما علّمه الله فليكتب).

على الرغم من أنّ ظاهر الآية يدلّ على وجوب كتابة العقد، يتبيّن من الآية التالية (فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤدّ الذي اؤتمن أمانته) أنّ لزوم الكتابة يتحقّق إذا لم يطمئن الطرفان أحدهما إلى الآخر واحتمل حصول خلافات فيما بعد.

3- على المدين الذي عليه الحق أن يملي تفاصيل العقد على الكاتب(وليملل الذي عليه الحقّ وليتّق الله ربّه ولا يبخس منه شيئاً)..والعقد الذي يكتب بإملاء المدين يعتبر مستمسكاً عليه لا يمكنه انكاره.

4- إذا كان المدين "سفيهاً، وهو الخفيف العقل الذي يعجز عن إدارة أمواله ولا يميّز بين ضرره ومنفعته، أو "ضعيفاً" أي القاصر في فكره والضعيف في عقله كالمجنون، أو "الأبكم والأصم" الذي لا يقدر على النطق، فإنّ لوليّه أن يملي العقد فيكتب الكاتب بموجب إملاء الولي (فإن كان الذي عليه الحقّ سفيهاً أو ضعيفاً أو لا يستطيع أن يملّ هو فليملل وليّه بالعدل). أي أن يلتزم العدل وأن يحافظ على مصلحة موكّله، وأن يتجنّب الإبتعاد عن الحقّ.

5- بالإضافة إلى كتابة العقد، على الطرفين أن يستشهدا بشاهدين (واستشهدوا شهيدين)(3).  لكن يجب أن يكون الشاهدان بالغين ومسلمين وهذا يستفاد من عبارة (من رجالكم) أي ممّن هم على دينكم. ويجوز اختيار شاهدتين من النساء وشاهد من الرجال (فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان). ولابدّ أن يكون الشهود ثقة وعدولاً (ممّن ترضَون من الشهداء). أي ممّن يُطمأنّ إليهم  لتقواهم ولصدقهم.

  6- ويجب على الشهود إذا دُعوا إلى الشهادة أن يحضروا من غير تأخير ولا عُذر كما قال: (ولا يأب الشهداء إذا ما دُعوا).وهذا من أهم الأحكام الإسلامية ولا يقوم القسط والعدل إلاَّ به.

وعلى الشهود أن يشهدوا بالحق وبما تم التفاهم عليه أمامهم من دون زيادة أونقيصة, وليس لهم أن يرفضوا الإدلاء بالشهادة لأن رفضهم قد يؤدي الى تضييع حقوق الآخرين, ويساهم في تدمير وهدم العلاقات الإنسانية.

7- تجب كتابة العقود والديون سواء أكانت صغيرة أو كبيرة، لأنّ الإسلام يريد أن لا يقع أيّ نزاع في الشؤون التجارية، حتّى في العقود الصغيرة التي قد تجرّ إلى مشاكل كبيرة (ولا تسأموا أن تَكْتُبُوه صغيراً أو كبيراً إلى أجله)(4) والسأم هو الملل من أمر لكثرة لبثه.

وتشير الآية هنا إلى فلسفة هذه الأحكام، فتقول إنّ الدقّة في تنظيم العقود والإتفاقات والمستندات تضمن: أولاً: الحفاظ على الحقوق وتحقيق العدالة ، وثانياً: تطمئن الشهود عند أداء الشهادة، وثالثاً: تجعل العقود واضحة لا التباس فيها  ولا غموض, وبالتالي لا يعود هناك شك في احتمال التلاعب أو سوء ظنّ أو إرتياب فيما تم الإتفاق عليه بين الطرفين (ذلكم أقسط عند الله, وأقوم للشهادة, وأدنى ألاَّ ترتابوا).

8- إذا كان التعاقد نقداً فلا ضرورة للكتابة (إلاَّ أن تكون تجارةً حاضرةً تديرونها بينكم فليس عليكم جناح ألاَّ تكتبوها).

"التجارة الحاضرة" تعني التعامل النقدي، و"تديرونها" تعني الجارية التداولة بين الناس. وتعبير (فليس عليكم جناح) يعني: ليس هناك ما يمنع من كتابة العقود النقدية أيضاً، وهو خير، لأنّه يزيل كلّ خطأ أو اعتراض محتملين فيما بعد.

9- في المعاملات النقدية وإن لم نحتج إلى كتابة عقد أحياناً لعدم كبر الصفقة أو لعدم أهميتها، لابدّ من الإتيان بشهود ليشهدوا على البيع معلى المعاملة (وأشهِدوا إذا تبايعتم).

10- وآخر حكم تذكره الآية هو أنّه ينبغي ألاَّ يصيب كاتب العقد ولا الشهود أيّ ضرر بسبب تأييدهم للحقّ والعدالة (ولا يضارّ كاتب ولا شهيد وإن تفعلوا فإنّه فُسُوق بكم) فإن الإضرار بالشهود أو بالكاتب لأنهم ينطقون بالحق إثم وفسوق وخروج عن طاعة الله سبحانه.

 والعقود بكل أنواعها يجب التقيد بها والإلتزام ببنودها وشروطها والوفاء بها, طبقاً لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود) وهذا ما سنتحدث عنه في الفرص القادمة.

                                                                          والحمد لله رب العالمين