مقالة لمجلة بقية الله تحت عنوان البعثة النبوية والاساطير المفتعلة

لقد اعد الله نبيه محمدا (ص) وهيّأه لحمل الرسالة وأداء الأمانة الكبرى، وإنقاذ البشرية، وحين بلغ الأربعين من عمره الشريف اختاره الله رسولا هاديا للناس جميعا. والمروي عن أئمة أهل البيت(ع): أن رسول الله (ص) بعث بالإسلام في السابع والعشرين من شهر رجب بعد عام الفيل بأربعين سنة (610م).

وقد بدأ نزول الوحي عليه بواسطة جبرائيل الأمين في غار حراء – وهوكهف صغير في اعلى جبل حراء في الشمال الشرقي من مكة – كان النبي (ص) يتعبد فيه لله سبحانه على النحو الذي ثبتت له مشروعيته، وكان قبل ذلك يتعبد فيه عبد المطلب.

وتفيد الروايات أن أول آيات قرأها جبرائيل على النبي (ص) هي قوله تعالى في سورة العلق:" إقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق إقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم"

وما يهمنا معالجته في هذه المقالة هوما ورد في بعض النصوص التاريخية حول ما جرى حين بدء نزول الوحي على النبي (ص) حيث ثمة أساطير مفتعلة دست في هذه الحادثة العظيمة لأهداف كثيرة قد لا تخفى على من احاط بالسياسات التي اتبعها اعداء الإسلام من اجل تشويه صورة النبي (ص) وتشكيك الناس بصدق رسالته.

من هذه الأساطير:

1-              ما ذكره البخاري من أن الملك جاء للنبي (ص) وهو في غار حراء فقال له: إقرأ" قال: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجهد ثم امسكني فقال: إقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم ارسلني فقال إقرأ فقلت: ما أنا بقارئ فأخذني فغطني الثالثة ثم ارسلني فقال: إقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق.

2-              ويضيف بعض من كتب في السيرة: أن النبي (ص) عندما دخل منزل خديجة كان يفكر في نفسه: لعل بصره خدعه، أو أنه كاهن، أو فيه جنون!!

ولكن لما قالت له خديجة " إن الله لا يفعل بك ذلك يا ابن عبد الله، إنك تصدق الحديث، وتؤدي الامانة، وتصل الرحم" إطمئن، وزال عنه الشك والتردد، ونظر إلى خديجة نظرة مودة وشكر، ثم طلب أن يُزمل فنام!!

3-               ويقول المؤرخ الطبري وبعض غيره: أن النبي (ص) لما سمع نداءً يقول: "يا محمد انت رسول الله" أصابه خوف شديد حتى انه هم بأن يطرح نفسه من اعلى الجبل، فتبدى له (ملك الوحي) ومنعه من ذلك.

4-              وفي رواية تاريخية اخر: أن النبي (ص) ذهب ليطوف بالكعبة في اليوم التالي لبعثته فرأه ورقة بن نوفل، فشرح له ما جرى له مع جبرائيل. فقال له ورقة: والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة، وقد جاءك الناموس الأكبر الذي جاء موسى، فشعر بأن نوفل يصدقه فاطمأن وزال عنه الشك

هذا ما يذكره بعض الروايات في قضية بدء الوحي.

 ولكن لنا أن نلاحظ على هذا النوع من الروايات التي تضمنت في الحقيقة قصصا مختلقة لا أساس لها من الصحة:

أولاً: ضعف سندها.

ثانيا: تناقضها واختلافها الكبير فيما بينها، الأمر الذي يجعلنا نشكك في صحتها.

وثالثا: إن هذه المرويات تذكر أن جبرائيل أخذ النبي فغطه أي عصره وحبس نفسه أو خنقه، حتى بلغ منه الجهد والتعب والألم، أوحتى ظن أنه يموت ويلفظ انفاسه الأخيرة، وأنه فعل به ذلك ثلاث مرات.

ولنا هنا أن نتساءل: ما هو المبرر لذلك كله، وكيف جاز لجبرائيل أن يفعل كل ذلك مع رسول الله وأن يؤذيه بالعصر والخنق إلى حد انه (ص) كان يظن الموت.

ثم هل النبي كان جاهلا إلى هذا الحد بحيث يجهل نبوة نفسه ويفكر أنه قد اصابه جنون ويحتاج في التثبت من نبوته إلى الاستعانة بخديجة ثم بخبرة ابن عمه ورقة بن نوفل؟.

ثم إن القرآن تحدث عن قضايا الانبياء السابقين وسيرتهم فلم نجد أي اثر لمثل هذه القصص المشينة في حياة أي واحد منهم، لقد تحدث القرآن عن قضية بدء نزول الوحي على موسى (ع) بشكل كامل وبيّن جميع التفاصيل، فلم يذكر أن موسى اصابه الخوف أو الرعب أو الفزع بحيث حدّث نفسه بالانتحار بعدما سمع الوحي، أو ظن بنفسه الجنون، بل القرآن يذكر أن موسى استقبل الوحي الإلهي بكل هدوء وسكون،ولم يحدث معه شيء مما يذكر أنه حدث مع محمد (ص) حين بدء نزول الوحي عليه. فهل كان موسى أفضل من محمد واثبت منه. هل يجوز أن نقول: إن موسى كان لحظة نزول الوحي عليه هادئا ساكنا مطمئنا، ولكن افضل الانبياء والمرسلين محمد بن عبد الله كان لحظة بدء نزول الوحي عليه مضطربا خائفا مرعوبا إلى درجة أنه فكر بالانتحار في طرح نفسه من أعلى الجبل.

       إن هذا النوع من المرويات ليس إلا نوعا من الاساطير التي دست في سيرة النبي من اجل الإيحاء بأن النبي (ص) لم يكن مطمئنا إلى الوحي الإلهي الذي ينزل عليه،وبالتالي التشكيك في اتصال نبينا الأعظم (ص) بالله سبحانه، ولذلك لا يمكن القبول بمثل هذه القصص التي لا تنسجم مع شخصية النبي ولا مع علمه ووعيه الكامل لما كان ينتظره من مستقبل مشرق بنور الإيمان والرسالة.

       إن الصحيح في قضية بدء الوحي: هو انه قد أوحي إلى رسول الله وهو في غار حراء، فرجع إلى اهله وزوجته مستبشرا مسرورا، بما اكرمه الله به من النبوة والرسالة.

       مطمئنا إلى المهمة التي اوكلت إليه، وكان بمستوى هذا الحدث الإلهي الكبير الذي اكرمه الله به، فلم يكن خائفا أو مرعوبا أو ظانا بنفسه الجنون، بل كان عالما بنبوة نفسه،وكان ينتظر اللحظة التي يأتيه فيها جبرائيل ليعلن نبوته ورسالته، ولهذا رجع إلى بيته مطمئنا، فلما دخل على خديجة اخبرها بأن جبرائيل كلمه وجها لوجه وأخبرها بما انزله الله عليه، وما سمع من جبرائيل فقالت له: ابشر فوالله لا يفعل الله بك إلا خيرا، ابشر فإنك رسول الله حقا.

       وقد سئل الإمام الصادق (ع) كيف لم يخف رسول الله فيما يأتيه من قبل الله أن يكون مما ينزع به الشيطان؟

       فقال (ع): إن الله إذا اتخذ عبدا رسولا انزل عليه السكينة والوقار فكان الذي يأتيه من قبل الله مثل الذي يراه بعينيه.

       وسئل الصادق أيضا: كيف علمت الرسل أنها رسل؟ فقال (ع): كشف عنهم الغطاء.

 ويقول العلامة الطبرسي في كتابه (مجمع البيان) في تفسير القرآن: إن الله لا يوحي إلى رسوله إلا بالبراهين النيرة والآيات البينة الدالة على أن ما يوحى إليه إنما هومن الله تعالى فلا يحتاج إلى شيء سواها ولا يفزع ولا يفرق.

والحمد لله رب العالمين.