هل يفرض الدين بالقوة؟ (67)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم). البقرة/256.

الإكراه هو الإجبار على الفعل وحمل الآخرين عليه قسراً من غير رضاهم، والرشد تعني الهداية والوصول إلى الحقيقة، في مقابل الغي الذي يعني الانحراف عن الحقيقة والابتعاد عن الواقع.

وقبل أن نبين ما تهدف إليه هذه الآية لا بد من التنبيه والتأكيد على نقطة هامة ترتبط بموضوع الآية وهي: أن هناك بعض المسائل قابلة للإجبار والإكراه، بحيث يمكن حملُ الآخرين عليها بالإكراه والقوة، وهناك مسائل غير قابلة للإكراه بحيث لا يمكن إقناع الآخرين بها ولا حملهم على فعلها عن طريق الإجبار والقوة.

مثلاً: لو فرضنا أن شخصاً امتنع عن أداء دين لشخص آخر, فهنا يمكن إجبار ذلك الشخص على أداء الدين بالقوة، ولو فرضنا أن الحكومة أصدرت قراراً بتلقيح الناس ضد مرض خطير وامتنع بعض الناس عن ذلك, فهنا يمكن إجبار هذا البعض على التقليح وحملهم على هذا العمل بالقوة، ولكن لو فرضنا أن شخصاً لا يحب فلاناً من الناس ولا يشعر بأية  عاطفة  تجاهه، ولا يميل قلبه  اليه، فهنا لا يمكن إجباره على حبه، لا يمكن مثلاً عن طريق ضربه واستخدام العنف معه ان تجعله يحبه, لأنه أساساً لا يمكن أن يميل قلبك نحو ذلك الشيء بالقوة والعنف، ولو جمعوا كل قوى العالم وأرادوا بالقوة أن يدخلوا المحبة في قلب شخص أو يخرجوا المحبة من قلب شخص لتبين لهم أن هذا العمل غيرُ ممكن، لأن القلب لا يستسلم  بالقوة والعنف  وكذلك العقل والفكر لا يستسلم عن طريق القوة والعنف، الجسد هو الذي يستسلم بالقوة والعنف.

إذا توضح  لنا ذلك نقول: إن الآية تقرر: أن الدين ليس من الامور التي تفرض على الناس بالإكراه والإجبار، فلا يمكن أساساً أن نفرض الدين كعقيدة وفكر بالقوة لسببين:

السبب الأول: إن الدين هو مجموعة من الاعتقادات الفكرية والقلبية, والإيمان هو الاعتقاد والميل والانجذاب نحو تلك العقائد الفكرية والقلبية بحيث إن فكر وعقل الإنسان هو الذي يتقبل تلك العقائد، بالإضافة إلى أن قلب الإنسان هو الذي يميل إليها وينجذب نحوها، والدين بهذا المعنى لا يمكن أن يفرض بالإكراه، فلا يمكن أن يقبل عقلُ الإنسان وفكره تلك العقائد وينجذب قلبه نحوها عن طريق العنف، لأن القوة والسيف والقدرة العسكرية يمكنها أن تؤثر في الأجسام لا في الأفكار والمعتقدات, فالفكر لا يستسلم بالعنف والقوة العسكرية، الفكر يستسلم بالمنطق والدليل والحجة والبرهان، ولذلك فلا يمكن بالقوة إدخال الإيمان إلى فكر الإنسان وعقله وقلبه.

والسبب الثاني: إن الدين يملك من الأدلة والبراهين الواضحة والمعجزات البينة التي يستطيع من خلالها إقناع الناس به من دون حاجة إلى إكراههم وإجبارهم بالقوة على ذلك، فإنه إنما يستخدم القوة واسلوب الإكراه والإجبار من لا يملك الحجة والمنطق والدليل، فيتوسل بالقوة والعنف لحمل الناس على فكرته، والدين الإلهي ذو منطق متين وحجة قوية، فلا يمكن فرضه بالقوة والإكراه.

وهذا يعني أن الإسلام لا يحمل الناس على تغيير أديانهم بالقوة والإكراه، ولا يجبرهم على اعتناق الإسلام والإيمان به، ولو كان هذا جائزاً في الإسلام لكان الأولى أن يجيز الإسلام للأب أن يتوسل بالإكراه لحمل ابنه على تغيير عقيدته والدخول في الإسلام وهذا ما لم يحصل.

فقد ورد في سبب نزول الآية: أنه كان لرجل مسلم من المدينة المنورة اسمه الحصين ولدان وقد دعاهم بعض التجار الذين كانوا يفدون إلى المدينة المنورة للتجارة إلى اعتناق المسيحية، فتأثر هذان الولدان بما سمعا من أولئك التجار ودخلا في المسيحية، ورحلا مع أولئك التجار إلى الشام، فانزعج الوالد المسلم من ذلك، وجاء إلى رسول الله (ص) وأخبره بما حدث، وطلب من النبي أن يعمل على إعادتهما إلى الإسلام, وسأله إن كان يجوز إجبارهما على ذلك ام لا؟ فأنزل الله هذه الآية وبينت أن (لا إكراه في الدين).

إذن هذه الآية تعطي جواباً صريحاً بأن الدين ليس من الامور التي تفرض بالإكراه والإجبار.

وهذه الآية رد حاسم على الذين يتهمون الإسلام بأنه توسل أحيانا ًبالقوة وبحد السيف لحمل الناس على الدخول في الإسلام.

لأنه حين لم يجز الإسلام والداً أن يتوسل بالضغط والإكراه لحمل ابنه على تغيير عقديته والدخول في الإسلام, فكيف يصح أن نقول بأن الإسلام انتشر بالسيف وحمل الناس على الدخول في الإسلام بالقوة؟!.

هؤلاء الذين يحاولون تشويه صورة الإسلام بمثل هذه الأقاويل يتناسون هذا الإعلان القرآني الصريح، ويحاولون من خلال تحريف مفهوم الجهاد وأحداث الحروب الإسلامية التي وقعت في صدر الإسلام أن يثبتوا أقوالهم وافتراءاتهم، بينما يتضح لكل منصف أن الحروب لم يكن المطلوب فيها هو السيطرة والتوسع وإرغام الناس على الدخول في الإسلام, بل كان الهدف منها هو الدفاع عن النفس أو إنقاذ الفئة المستضعفة التي كانت تعيش تحت سيطرة الطغاة والمستكبرين وتحريرها من العبودية لغير الله لتختار بنفسها بعد ذلك الطريق الذي ترتئيه, وبعبارة أخرى: إن الاسلام من حيث المبدأ توسل بالقوة العسكرية لثلاثة أمور:

أولاً: لمحو آثار الشرك وعبادة الأصنام, لأن الإسلام لا يعتبر عبادة الأصنام ديناً من الأديان، بل يراها انحرافاً ومرضاً وخرافة، ويعتقد أنه لايجوز أن يسمح لجمع من الناس أن يسيروا في طريق الضلال والخرافة بل يجب إيقافهم عند حدهم، ولذلك دعا الإسلام عبدة الاصنام إلى التوحيد, وعندما أصر عبدة الأصنام على انحرافهم توسل الإسلام بالقوة وحطم الأصنام وهدم معابدها ووقف حائلاً وحاجزاً دون بروز أي مظهر من مظاهر هذا السلوك المنحرف وهو عبادة الأصنام لكي يقضي على منشأ هذا المرض الروحي.

وهذا غير فرض الدين بالقوة, لأن القوة تستخدمها لتقويم السلوك وتصحيح السلوك المنحرف وليس لفرض العقيدة والدين بالقوة.

وثانياً: توسل الإسلام بالقوة، لمقابلة ومواجهة المتآمرين الذين كانوا يحاولون القضاء على الإسلام وعلى دولة الإسلام, فلجأ المسلمون إلى الدفاع عن أنفسهم وبلدهم ودينهم، واستخدموا القوة العسكرية في الدفاع.

ولعل معظم الحروب الإسلامية على عهد رسول الله (ص) كانت من هذا القبيل, مثل حرب أُحُد والأحزاب وحُنين ومؤتة وتَبوك،  فإنه في هذه الحروب كان المشركون هم المعتدين وكان المسلمون في موقع المدافعين عن أنفسهم ودينهم وكيانهم.

وثالثاً: استخدم الإسلام القوة العسكرية للحصول على حرية الدعوة والتبليغ, لأن الإسلام دين من الأديان السماوية, ولكل دين الحق في أن يكون حراً في الإعلان عن نفسه بصورة منطقية,  فإذا منعه أحد من هذا الحق فله أن ينتزع حقه هذا بقوة السلاح, فالاسلام استخدم القوة من أجل هذه الأمور, ولم يتوسل بالقوة في أية مرحلة من مراحله لفرض العقيدة والفكر والدين على الناس, لأن الدين بحد ذاته لا يتحمل الإكراه والإجبار ولا يمكن أن يفرض بالقوة العسكرية وإنما بالمنطق والإقناع عن طريق الدليل والبرهان والحجة القوية.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين