الحديث الرمضاني (7)

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ، وَأَبْدِلْنِي مِنْ بِغْضَةِ أَهْلِ الشَّنَآنِ الْمَحَبَّةَ، وَمِنْ حَسَدِ أَهْلِ الْبَغْيِ الْمَوَدَّةَ، وَمِنْ ظِنَّةِ أَهْلِ الصَّلاحِ الثِّقَةَ، وَمِنْ عَدَاوَةِ الأَدْنَيْنَ الْوَلايَةَ، وَمِنْ عُقُوقِ ذَوِي الأَرْحَامِ الْمَبَرَّةَ، وَمِنْ خِذْلانِ الأَقْرَبِينَ النُّصْرَةَ، وَمِنْ حُبِّ الْمُدَارِينَ تَصْحِيحَ الْمِقَةِ، وَمِنْ رَدِّ الْمُلابِسِينَ كَرَمَ الْعِشْرَةِ، وَمِنْ مَرَارَةِ خَوْفِ الظَّالِمِينَ حَلاوَةَ الأَمَنَةِ.

(في اليوم السابق لم نتمكن من الحضور في المسجد بسبب وعكة صحية)

في هذه الفقرة يطلب الامام من الله تعالى تسعة أشياء في تسع جمل، لا نستطيع ان نتحدث عنها كلها لذلك ساتكلم في هذا الحديث عن الامر الأوّل منها، حيث يقول الإمام: « وَأَبْدِلْنِي مِنْ بِغْضَةِ أَهْلِ الشَّنَآنِ الْمَحَبَّةَ».

أهل الشنآن هم الذين يحملون البغض والعداوة والحقد للاخرين ويكونوا خبثاء في طبعهم ويكون شغلهم الشاغل أن يؤذوا الآخرين، يلدغون كالعقرب قال تعالى: ﴿إنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبْتَرُ﴾ اي مبغضك

وقد يكون المبغض والحاقد جار او زوج او زوجة او من الافرباء او زميل في العمل او منافس تجارياو خصم سياسي الخ

وقد يكون الإنسان نفسه سببا في بغض أهل الشنآن له نتيجة أعماله السيئة او اخلاقه السيئة او نتيجة طريقة تعاطيه مع الناس او مع اهل بيته او مع اقربائه او جيرانه، فيكون من مصاديق قوله تعالى: ﴿وَمَا أصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِك).

وقد يبتلى الشخص بأهل الشنآن من دون ان يكون هو سببا في بغضهم بل لانه يملك بعض الصفات الجيدة فيحسدونه عليها، كما لو كان يتمتع بجمال أو حسن خُلُق أو ذكاء أو نفوذ تجاري او لانه صاحب موقع او منصب او نفوذ سياسي واحيانا يكون الحقد على جهة او جماعة او حزب كحزب الله اليوم ويكون الحقد عليه او البغض له بسبب تاريخه الناصع وتجربته الصادقة وتراكم انجازاته وانتصاراته او بسبب قوته وقدراته ومعادته للاستكبار او بسبب  شعبيته الواسعة فيحسده الخصوم ويبغضه المبغضون والحاقدون وتكال الشتائم عليه وتشن الحملات الاعلامية والسياسية ضده ، بل قد يندفع البعض ليكون من اهل الشنآن و المبغضين والحاقدين لانه مأجور ومدفوع من قبل الاعداء للقيام بهذا الدور كالادوات الذين يعملون لدى السفارات ولدى الامريكي وحلفائه ويظهرون البغضاء والعدواة لحزب الله والمقاومة فهولاء بغضهم مدفوع الثمن وهم اصبحوا من المبغضين والحاقدين والمتآمرين لان المطلوب منهم (من قبل اسيادهم) ان يقوموا بهذا الدور ويطلقوا الشتائم والاكاذيب والافتراءات على حزب الله.

عندما نتأمّل في دعاء الإمام نجده يطلب من الله تعالى أن يبدله المحبّة ليس فقط من مبغض عابر او حاقد طارىء ، بل يطلب من الله تعالى أن يبدله من بغضة أهل الشنآن الذين طبيعتهم وشغلهم وديدنهم البغض والحقد والشنآن ان يبدل بغضهم الى المحبة اي يجعلهم محبين بدل مبغضين حت ىالخصوم السياسيين ينبغي ان نحاول معهم ذلك لا ان نقول كما يقال في عرفنا (الله لا يردهم).

كيف نفعل ذلك ؟

اولا: بالدعاء وهو آحد الوسائل للتخلص من الاشخاص الذين طبيعتهم البغض والعداوة كما علّمنا الإمام السجّاد سلام الله عليه: «اللهمّ وأبدلني من بغضة أهل الشنآن المحبّة».

ثانيا بالعمل بان نعمل على احتواء أهل الشنآن واستيعاب المبغضين والحاقدجين ما امكن، بان نقوم بزيارتهم او باسداء خدمة لهم او بملاطفتهم والتعامل معهم باخلاق الاسلام او باظهر الحقائق لهم وتوضيح الامور وبيانها لان الكثير من هؤلاء مضللون نتيجة الحملة الاعلامية او السياسية .

وهذا السلوك هو ما نتعلمه من ائمتنا الذين عاشوا ظروفا سياسية واجتماعية صعبة فكان لهم خصوم ومناوئون واعداء وكانت تشن عليهم الحملات الاعلامية والسياسية من العديد من الابواق المخالفة وكانوا يتصدون لهؤلاء باسلوب الاسلام فيترفعون عن الاساءات وييتعاملون باخلاق الاسلام ويبينون لخصومهم الحقائق وكان في كثير من الاحيان يتحول خصومهم من مبغضين الى محبين.

وهناك ـ الكثير من القصص في سيرة أهل البيت سلام الله عليهم التي يمكن للإنسان أن يستضيء بها

فقد روي ان رجلا من اهل الشام جاء لزيارة قبر النبي في المدينة فوجد رجلا يركب فرسه عليه هيبه ووقار وحوله مجموعة من اصحابه يحوطونه من كل جانب وهم طوع اشارته استغرب الشامي وتعجب في ان يكون في الدنيا رجل له من الهاله والتعظيم اكثر من معاويه في الشام فسأل عن الرجل فقيل له : انه الحسن بن علي بن ابي طالب قال : هذا هو ابن ابي تراب الخارجي؟ ثم تمادى سبا وشتما في الحسن و ابيه و اهل بيته فشهر اصحاب الامام الحسن (ع) سيوفهم وارادوا قتله فمنعهم الامام الحسن ونزل عن جواده فرحب به و لاطفه قائلا: يبدو انك غريب عن هذه الديار يا اخا العرب ؟

قال الشامي :نعم انا من الشام من شيعة امير المؤمنين و سيد المسلمين معاويه بن ابي سفيان فرحب به الامام من جديد وقال له : انت من ضيوفي امتنع الشامي ولكن الامام لم يتركه حتى قبل النزول عنده وبقي الامام يخدمه بنفسه طيلة ايام الضيافه ويلاطفه فلما كان اليوم الرابع بدا على الشامي الندم و التوبه مما صدر منه تجاه الامام وكيف يسبه ويشتمه فيقابله بالاحسان و العفو وحسن الضيافه فطلب من الامام ورجاه ان يسامحه على ما صدر منه واخذ يقبل يدي الامام ويعتذر وقال: والله الذي لا اله الا هو اني دخلت المدينه وليس لي على وجه الارض ابغض منكم وها انا اخرج منها وليس على وجه الارض احب الي منكم .

وينقل الخواجه نصير الدين الطوسي رحمه الله (صاحب كتاب تجريد الاعتقاد) أنّ شخصاً كتب له رسالة وجّه له فيها سبّاً لاذعاً، كما تجاوز عليه بقوله (ياكذا)، فأجابه الشيخ وكان عالماً ووزيراً مقتدراً: وأمّا قولك أنّني كذا فهذا غير صحيح لأنّ الكذا يمشي على أربع وأنا أمشي على اثنين، والكذا فصله «نابح» وأنا فصلي «ناطق»!

لنراجع أنفسنا ونرى هل نستطيع أن نكون هكذا في الخُلُق الرفيع الذي تحلّى به هذا الشيخ العالم الذي لم يكن عاجزاً - لا من حيث قوّة القلم والبيان ولا من حيث السلطة - أن يقابله بأشدّ من قوله؟ ولكنّه تلميذ مدرسة أهل البيت الذي تعلّم منهم الصبر والأخلاق الرفيعة.

نقل عن السيّد أبي الحسن الإصفهاني قدّس سرّه انه وسط شخصا لاقناع أحد المبغضين له ليقوم السيد بزيارته وكان يكيل السباب والشتائم للسيّد، أي كان شانئاً له - يقول الشخص فذهبت الى ذلك الرجل وكان صديقا لي وذو مكانة اجتماعية فكنت كلّما حاولت ذكر اسم السيّد عنده لأُقنعه بزيارته له، كان يتهرب من الحديث، حتّى مرض في أحد الأيّام، فأخبرت السيّد الإصفهاني بالأمر، وقلت له: إنّها فرصة مناسبة. وجئت للرجل وقلت له: أنت مريض والناس يعودونك، فاذا جاء السيد لعيادتك، ماذا تصنع؟

قال: أستقبله بما يكره، ولا أقوم له!!

قلت له: هل من شيم المؤمنين والعرب أن تخدش حرمة شخص جاء لزيارتك وحلّ ضيفاً عليك، وأنت رجل عربيّ؟!

فتأمّل لحظة ثمّ قال: إذاً لا أُكلّمه، ولا أقوم احتراماً له!

فذهبت إلى السيّد وأخبرته بالأمر، وجئنا سويّة لعيادة الرجل، وحينما دخلنا تظاهر أنّه لا يستطيع القيام من شدّة المرض، مع أنّه كان يستطيع! وأخذ يتثاقل في جواب السيّد ولا يجيب إلا بقدر الضرورة، ولكن السيّد ظلّ يلاطفه ويسأل أحواله وهو يجيب بكلّ برودة.

واستمرّ السيّد يلاطفه بأخلاقه الحسنة حتى اذهب الله من صدره البغض ، بحيث عندما همّ السيّد بالمغادرة قام الرجل لمشايعته إلى الباب!

وسألته بعد ذلك: كيف وجدتَ السيّد؟ قال: بعد إمام الزمان عجّل الله تعالى فرجه الشريف لا شخص أفضل منه على الإطلاق!

وهكذا صار هذا الشخص وليّاً حميماً للسيّد بعد أن كان عدوّاً لدوداً؛ لأنّ السيّد قدّس سرّه عمل بقول الله تعالى: ﴿اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ فَإذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاو

 

فبالاسلوب الحسن والتعامل باخلاق الاسلام وبيان الحقائق ووضع النقاط على الحروف اضافة الى الدعاء يمكن ان نبدل المبغضين و أهل الشنآن إلى محبّين؛ كما في قوله تعالى: ﴿اِدْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أحْسَنُ فَإذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ أي أنّه سيحبّك بقلبه ويدافع عنك بكل قوته.

ولا شك أنّ الإحسان إلى المسيئين والمبغضين والصبر عليهم يحتاج إلى ارادة وعزيمة قوية؛ ولذلك عبّرت الآية نفسها عن هذه الخصلة بقوله تعالى: ﴿وَمّا يُلَقَّاهَا إلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيم﴾

وبقدر ما يكون الصبر كبيرا على الإساءات تكون النتائج جيدة، وإنّ هذا التوفيق الإلهي وإن كان يحتاج إلى حظّ عظيم إلاّ أنّ مفتاحه بيد الإنسان نفسه.