الحديث الرمضاني (14)

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاجْعَلْ لِي يَداً عَلَى مَنْ ظَلَمَنِي، وَلِسَاناً عَلَى مَنْ خَاصَمَنِي، وَظَفَراً بِمَنْ عَانَدَنِي، وَهَبْ لِي مَكْراً عَلَى مَنْ كَايَدَنِي، وَقُدْرَةً عَلَى مَنِ اضْطَهَدَنِي، وَتَكْذِيباً لِمَنْ قَصَبَنِي، وَسَلامَةً مِمَّنْ تَوَعَّدَنِي، وَوَفِّقْنِي لِطَاعَةِ مَنْ سَدَّدَنِي، وَمُتَابَعَةِ مَنْ أَرْشَدَنِي.

في الفقرات الثلاث التي شرحناها بالامس  اي(وَاجْعَلْ لِي يَداً عَلَى مَنْ ظَلَمَنِي، وَلِسَاناً عَلَى مَنْ خَاصَمَنِي، وَظَفَراً بِمَنْ عَانَدَنِي) نلاحظ ان الامام يعلمنا فيها كيف نطلب من الله ان يمنحنا القوة والقدرة والشدة  في مواجهة الظالمين والخصوم والمعاندين فلا نسكت ولا نعفو ولا نتسامح امام ظلمهم وعنادهم وخصومتهم بل نواجههم بالشدة والقوة، فاليد واللسان والظفر الواردة في الفقرات الثلاث هي تعبير عن قدرات يطلب الانان من ربه ان يوفرها له لكي يتمكن من المواجهة واالغلبة والفوز والنصر على الظالم والخصم والمعاند للحق، وهذا السلوك هو غير السلوك  الذي ارشدنا اليه الامام (ع) في المقطع السابق من الدعاء حيث انه في المقطع السابق علمنا كيف ندعو الله لكي نواجه  اهل الشنآن والمبغضين بالمحبة  وحسد اهل البغي بالمودة وعقوق الارحام بالصلة وخِذْلانِ الأَقْرَبِينَ بالنصرة واهانة الْمُلابِسِينَ بكرم العشرة الخ بينما هنا يعلمنا ان نواجه بالقوة والشدة ومنطق الغلبة !

وايضا عندما نعود الى تعاليم الاسلام والكم الهائل من الاحاديث والارشادات الاخلاقية نجد ان الاحاديث ترشد الى مقابلة الإساءة بالإحسان والترفع عن تجاوزات الاخرين والاعراض عنها لا مقابلتها بالقوة والعنف.

ففي الحديث المشهور: أن جبرئيل عليه السلام جاء إلى النبي صلى الله عليه وآله فقال: أتيتك يا محمد بمكارم الأخلاق أجمعها، قال:وما تلك؟ قال: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين، يا محمد هي أن تصل من قطعك، وتعطي من حرمك وتعفو عمن ظلمك. فأحسن صلى الله عليه وآله تقبله وتلقيه حتى نزل قوله تعالى ثناء عليه: «وإنك لعلى خلق عظيم» .

فحسن الخلق يقتضي العفو والإعراض بل مقابلة الإساءة بالإحسان، فكيف نوفق ونجمع بين العفو والتسامح والدعوة لمقابلة الااساءة بحسن الخلق الذي يدعونا اليه الاسلام وبين منطق القوة والشدة والغلبة وعد التنازل؟

الجواب: هو اننا يجب ان نفرقبين العدو والصديق وبين الظالم والمخطىء وبين المعاند والجاهل، فالتعامل مع العدو يختلف عن التعامل مع الصديق والتعامل مع الظالم يتلف عن التعامل مع المخطىء وهكذا فلا يمكن ان نتعامل مع الجميع بنمط واحد وسلوك واحد ولذلك عندما يدعونا الاسلام الى معالي الاخلاق يميز بين في التعامل بين المؤمنين وبين الكافرين يقول الله تعالى (محمد رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ ) فالتعامل مع الاعداء والظالمين والمستكبرين يكون بالقوة والشدة ومنطق الغلبة لانه لا يمكن ردع العدو عن عدوانه وارهابه وافساده الا بالشدة والقوة في كثير من الاحيان والتعامل بالعفو والرحمة مع المؤمنين هو من حسن الخلق كما ان التعامل مع الاعداء بالشدة والقوة هو من حسن الخلق ايضا لان القوة والشدة تنع الظلم والفساد وتردع الظالمين والمفسدين والاعداء فينتج عن ذلك رحمة وسلاما وامنا للناس جميعا، بينما التعامل بين المؤمنين يكون على اساس الرحمة والعفو والتسامح وتجاوز الاساءات والاعراض عن الهفوات والاخطأ التي يمكن ان تصدر نتيجة جهل او انفعال او سوء فهم او ماشاكل ، فاذا اخطأ البعض او اساء وعفونا عنه وتسامحنا معه فان ذلك سيكون بمثابة تشجيع له لعدم تكرار ما فعله وابطال اي تأثير لما فعله العلاقة بين المؤمنين ، فالتعامل لا يكون بنمط واحد مع المؤمنين والاعداء او مع الظالمين والمخطئين الذين تصدر منهم هفوات وسلبيات لانه اذا تعاملنا بنمط واحد مع الجميع من دون تمييز فهذه سذاجة وبساطة لا انصاف ولا عدل فيها فالسكوت امام الظالمين يشجعهم على المزيد من ممارسة الظلم والقهر والاضطهاد وعدم الرد على الخصوم وافحامهم سيجعلهم يضللون الناس ويؤثرون بالباطل في عقولهم وافكارهم وانطباعاتهم. وفي المقابل فان عدم التسامح مع الاصدقاء والاخوة والزملاء  والجيران وعدم العفو عن الناس الطيبين والمؤمنين يولد الخصومة والعداوة التي تمزق المجتمع من الداخل.

ولا بد ان نكون دقيقين في التمييز بين الحالات المختلفة لنحدد كيفية التعامل معها فنعفو في حالة ونواجه في حالة اخرى ، وحتى المؤمن اذا اصر على الخطأ ولم يرتدع فلا بد من استعمال الشدة المناسبة معه  التي تعينه على التراجع عن اخطاءه.

قال في رياض السالكين تعليقا على على هذا المقطع من الدعاء:

فإن قلت: في هذا الفصل من الدعاء ما ينافي مكارم الأخلاق، فإنه عليه السلام سأل الاستعداد للقوة على الانتقام ممن أساء إليه، وحسن الخلق وكرمه يقتضي العفو والإعراض بل مقابلة الإساءة بالإحسان.

 قلت: ليس في الدعاء ما ينافي الخبر، وبيان ذلك: أن من الظلم والإساءة ما يحسن العفو عنه، ومنه ما لا يحسن إلا دفاعه.

فالأول: ما ليس على الإنسان في تحمله والتغاضي عنه ذلة وغضاضة ولا عاز ودناءه، فهذا مما يحسن العفو عنه والحلم عليه، وهو الذي يقتضيه حسن الخلق وكرمه.

والثاني: ما أدى إلى دنية وعار، فهذا مما لا يحسن إلا دفاعه والكف عنه، وهو المسمى بإباء الضيم، وأنفة العار، وحماية الحريم، والأخذ بالثار، وعن هذا قال أمير المؤمنين عليه السلام: لا خير فيمن لا يغضب إذا اغضب (1).
وقال تعالى حاكيا عن نبيه لوط عليه السلام في التأسف على عجزه عن دفاعه: «لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد» (2).
وقالت الحكماء: إن القوة الغضبية إذا تركبت مع العقل استقام أمر الحماية والدفاع والأخذ بالثار، وكان صاحبه عدلا في اقتداره محمودا في انتصاره.

 وإلى هذا المعنى أشار الجعدي بقوله:

ولا خير في حلم إذا لم تكن له بوادر تحمي صفوه أن يكدرا ولا خير في جهل إذ لم يكن له حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا (4) وقال أبو الطيب:

إذا قيل حلما قال للحلم موضع وحلم الفتى في غير موضعه جهل (5) ومن هنا قالت العلماء: يجب التدبر في أمر الإساءة والظلم، فإن كان مما يسعه العفو والتجاوز كفى فيه العتاب، والعدل والعفو أحسن وأولى وهو أقرب للتقوى، وإن لم تسمح السياسة بالتجافي والصفح عنه وجبت العقوبة بقدر الذنب لا بقدر التشفي.
إذا عرفت ذلك، فما سأله عليه السلام من اليد واللسان والظفر والاقتدار، إنما أراد به ما يقتضيه إباء الضيم وأنفة العار، وهو من أعلى معالي الأخلاق لا مناف لها، والله أعلم.