الحديث الرمضاني(4)

وَعَمِّرْنِي مَا كَانَ عُمُرِي بِذْلَةً فِي طَاعَتِكَ، فَإِذَا كَانَ عُمُرِي مَرْتَعاً لِلشَّيْطَانِ فَاقْبِضْنِي إِلَيْكَ قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَ مَقْتُكَ إِلَيَّ، أَوْ يَسْتَحْكِمَ غَضَبُكَ عَلَيَّ.


يعني 
اسألك يا رب أن تطيل عمري في هذه الدنيا إذا كان عمري مبذولاً لطاعتك، وفرصة لكسب رضاك وللقيام بالاعمال الصالحة ومراكمة الحسنات

 اسالك يارب أن تطيل هذه الفرصة التي تمكنني من زيادة رصيدي من الطاعات والاعمال الصالحات، 
أمَّا إذا كانت حياتي سبباً لارتكاب المعاصي والمحرمات والموبقات والفساد ، فاسألك يا رب أن تُنهيها، وأن تقبض روحي لأموت في وقت مبكر، كي لا يكون طول عمري مرتعاً للشيطان، ساحة يسرح فيه متى شاء وكيفما شاء، كما تسرح الغنم في مرعاها لتأكل منه ما شاءت ومتى شاءت، اقبض روحي حتى لا أُراكم خسائري وسيئاتي في دنياي، فتتحول الى وابل عليّ عند حسابي في يوم القيامة. فلو انتهت حياتي باكراً، واكتفيت بما صدر مني في السابق، ولم اراكم المزيد من الشرور والآثام ، أكون بذلك قد تجنبت مقتك وغضبك، فإنَّه لا طاقة لي على تحمُّل استحكام غضبك عليَّ.

هذا المقطع من الدعاء بهذا المعنى الواضح يدل على ان الدنيا التي نعيشها قد تكون سببا للسعادة الأبدية وقد تكون سببا للشقاء الأبدي، وهذا عائد لما نختاره فيها، فبأيدينا سعادتنا أو شقاؤنا، وبالتالي فالدنيا ليست منكرة بذاتها كي ننفر منها أو نسعى للتخلص منها، الدنيا ضرورية وأساسية ولا بد منها وليست مذمومة ومنكرة لانها المكان والفرصة التي نبني فيها صلاحنا واستقامتنا وسعادتنا وجنتنا في الاخرة المنكر هو ان نحول الدنيا وحياتنا فيها الى مكان لممارسة الملذات والشهوات المحرَّمة والى عنصر لارتكاب المعاصي والتمرد على الله والابتعاد عن القيم والاخلاق والتعلق بها وبمغرياتها ومصالحها بحيث تصدنا وتمنعنا من القيام بواجباتنا ومسؤولياتنا

 

فالامام (ع) لاينظر الى الحياة ‌من‌ حيث هى نظرة المتشائم او المتفائل، بل يقيس حياة الانسان باعماله، ‌ان‌ فعل خيرا فالحياة خير، ‌و‌ ‌ان‌ فعل شرا فالحياة تتحول الى شر ووبالٍ عليه.

وهذا ما اشار اليه أمير المؤمنين علي عليه السلام وقد سمع رجلا يسب الدنيا: "إِنَّ الدُّنْيَا دَارُ صِدْقٍ لِمَنْ صَدَقَهَا، وَدَارُ عَافِيَةٍ لِمَنْ فَهِمَ عَنْهَا، وَدَارُ غَنَاءٍ لِمَنْ تَزَوَّدَ مِنْهَا، وَدَارُ مَوْعِظَةٍ لِمَنِ اتَّعَظَ بِهَا، ... ذَكَّرَتْهُمْ فَذَكَرُوا وَحَدَّثَتْهُمْ فَصَدَّقُوا وَوَعَظَتْهُمْ فَاتَّعَظُوا مِنْهَا بِالْعِبَرِ وَالْغِيَرِ

فالدنيا هي المكان الذي خلقه الله لنا لنعيش فيه عبوديتنا وطاعتنا لله، ولم تكن في يوم من الأيام عقوبة لنا، كما يظن البعض وهي محمودة من هذه الجهة لكن عندما تتحول الى مكان للمعصية والتمرد على الله تصبح مذمومة ومنكرة ولا قيمة لها بل تصبح سببا لتعاسة الانسان وشقائه وخسرانه.

1-هي دار الاختبار والامتحان:  يختبرنا الله فيه هل نختار طريق الصلاح والاستقامة او طريق الفساد والمعصية هل نتعظ فيها ومنها ام نستكبر ويسيطر علينا الطغيان.


 رسول الله(ص):"منهومان لا يشبعان: منهوم دنيا، ومنهوم علم، فمن اقتصر من الدنيا على ما أحلَّ الله عزَّ وجل سَلِمْ، ومن تناولها في غير حلها هلك..



فالتعاطي مع الدنيا مرتبط بالأهداف التي نريد تحقيقها، فاذا كنا نطلب فيها الخير نتمسك بها ونسال الله طول العمر فيها  وان كنا نطلب فيها الشر فمغادرتها مصلحة لنا  كما قال الإمام زين العابدين(ع) في دعاء يوم الثلاثاء:"واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، والوفاة راحة لي من كل شر".

2- تحويل الدنيا الى طريق للآخرة: فيمكن تحقيق التوازن الدقيق بين الدنيا والاخرة عندما نسلك طريق الدنيا بهدف الآخرة، فيكون كل ما فيها في خدمة الهدف، ويكون العيش الطويل فيها خيراً وبركة وأعمالاً صالحة، لأن الآخرة حاضرة مع الدنيا في كل لحظة، وهو ما قصده الحديث الشريف المروي عن الإمام الحسن(ع):"إعمل لدنياك كأنك تعيش أبداً، واعمل لآخرتك كأنك تموت غداً".


بل اننا نجد ان الله استنكر الاعراض عن الدنيا والتنعم بالحياة وبما احل الله فيها للمؤمنين اذا كان الانسان يعيش حياته في الاطار الصالح الذي رسمه الله سبحانه

حيث قال تعالى "قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُون"


في ايات اخرى يأمر الله أن نسير في هذه الأرض، ونأكل من رزقها، ونأخذ نصيبنا منها، قال تعالى :" فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ َ"

ويقول تعالى: ،" وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الآَخِرَةَ وَلاَ تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلاَ تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأرْضِ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ"

 وقال رسول الله(ص):"العبادة سبعون جزءاً، أفضلها طلب الحلال"

ولذلك لا معنى للخوف من الدنيا وتجنبها طالما أنَّها في الحلال،

روي عن أبي جعفر (ع) قوله:"نعم العون الدنيا على الآخرة"

، وقال(ع):"من طلب الدنيا استعفافاً عن الناس، وسعياً على أهله، وتعطفاً على جاره، لقي الله عزَّ وجل يوم القيامة ووجهه مثل القمر ليلة البدر".

وقال رجل للإمام الصادق(ع):"والله إنَّا لنطلب الدنيا ونحب أن نؤتاها. فقال(ع): تحب أن تصنع بها ماذا؟
قال: أعود بها على نفسي وعيالي، وأصلِ بها، وأتصدق بها، وأحج واعتمر . فقال(ع): ليس هذا طلب الدنيا، هذا طلب الآخرة".

اذن هذا هو الفرق بين الدنيا المحمودة والدنيا المذمومة فإذا أدركنا الفروقات بين الدنيا المحمودة والدنيا المذمومة، أمكننا الاختيار بوضوح، وتحويل الدنيا إلى معبر خير لا تتعقَّد حياتنا بسببه، بل نمارس فيها كدحنا الإنساني للسمو والنجاح، فنأخذ منها حاجاتنا وما أجازه الله لنا فيها، فنكون بذلك قد ربحناها وربحنا الآخرة. فالمتقون فيها كما وصفهم أمير المؤمنين علي(ع):" سَكَنُوا الدُّنْيَا بِأَفْضَلِ مَا سُكِنَتْ،وَأَكَلُوهَا بِأَفْضَلِ مَا أُكِلَتْ فَحَظُوا مِنَ الدُّنْيَا بِمَا حَظِيَ بِهِ الْمُتْرَفُونَ، وَأَخَذُوا مِنْهَا مَا أَخَذَهُ الْجَبَابِرَةُ الْمُتَكَبِّرُونَ، ثُمَّ انْقَلَبُوا بِالزَّادِ الْمُبَلِّغِ وَالْمَتْجَرِ الرَّابِحِ.