الحديث الرمضاني (14) المن آفة الخير

بسم الله الرحمن الرحيم (وأغنني وأوسع علي في رزقك، ولا تفتني بالبطر، وأعزني ولا تبتليني بالكبر، وعبدني لك، ولا تفسد عبادتي بالعجب، وأجر للناس على يدي الخير، ولا تمحقه بالمن، وهب لي معالي الأخلاق، وأعصمني من الفخر).

قلنا ان الامام في هذه الجملة: وأجر للناس على يدي الخير، ولا تمحقه بالمن، يطلب من الله ان يجعله صانعا للخير وان لا يفسد عمله هذا بالمن. و قلنا بان هذا دليل على ان الاسلام يريد من الانسان المؤمن ان يكون عنصر خير في المجتمع، لا عنصر شر وظلم وبغي وعدوان، وان يكون مصدرا للخير والمعروف والاحسان والعطاء لكل الناس. الخير لاهله والخير لاولاده والخير لجيرانه والخير لمجتمعه ووطنه ، الخير للمسلمين وغير المسلمين الخير للشركاء في الوطن، وان يكون فعله وصنعه للخير متواصلا ومستمرا ودائما وليس موسميا او في المناسبات، وان يصنع الخير من دون ان ينتظر مقابلا او عوضا من احد.

والمقصود بـ الخيرمطلق الخير وعموم الخير ،فهو يندرج تحته جميع الأعمال الصالحة والمعروف والإحسان إلى الناس . فالألف واللام  في كلمة الخير تفيد العموم ، فالخير ليس منحصراً بالمال والطعام والملبس والمسكن ولا منحصرا بالمساهمة في بناء المشاريع الخيرية ولا باطعام الايتام والفقراء ، ولا بتقديم الدعم للمجاهدين والجبهات، بل الاصلاح بين الناس هو خير ، هداية الناس وارشادهم الى ما فيه مصلحتهم في الدنيا والاخرة هي خير، تقديم الخدمات المتنوعة على الصعيد الانمائي والبيئي والاجتماعي خير، تعبيد الطرق وازالة الاذى عن طريق الناس خير، المساهمة في حملات النظافة والحفاظعلى النظافةوالنظام العام خير، حلّ المشكلات والنزاعات الاجتماعية وغير الاجتماعية خير  ..الخ كلّ عمل صالح وطيب، كل عمل ينتفع به الناس ويستفيد منه الناس ويحسن من اوضاعهم في اي مجال هو خير في منطق الإسلام ، ويعلمنا الإمام ان نطلب من الله أن يجريه على ايدينا للناس كل الناس.

لكن اذا اردنا ان نحصل على نتائج وآثار الخير الذي نصنعه للناس ،على اجره وثوابه وفضله عند الله، فان علينا ان لا نفسده بالمن، وبتذكير الاخرين بجميل ما عملناه لهم، او بالحديث والتبجح بما صنعناه لهم .

 فلا ينبغي ان نمنن من اعطيناه او ساعدناه او قضينا له حاجة بما فعلنا له، لا ينبغي ان تقول لمن ساهمت في حفر بئر ارتوازي مثلا لهم وأمنت الماء لهم لولاي لما شرب اهل الضيعة او اهل الحي او المنطقة،

  ولا ان تقول لمن ساعدته في تعليم اولاده او في تامين وظيفة لهم  اولادك بفضلي تعلموا او توظفوا ولولاي لكانوا جاهلين او بلا عمل

 لا ينبغي ان تقول لمن أطعمت لولاي لمت جوعا، او لمن خدمته مصيرك كان سيئا لولا اني سعيت لانقاذك من ورطتك او مشكلتك لهلكت.

 او تمنن الزوجة او الاولاد عندما تسدي لهم معروفا  انا عملتك انا سويتك انا اطعمتك لولاي لما كنت شيئا وهكذا بحيث تُشْعر من صنعت الخير له بالمذلة فتؤذيه في مشاعره واحاسيسه وكرامته.

 لا ينبغي ان تمنن احدا بهذا الشكل لان المنّ يمحق عمل الخير، والمحق هو  ابطال العمل واسقاط أجره وإبطال ثوابه وآثاره ونتائجه وفوائده، المن يجعلك تخسر كل اعمالك وصدقاتك ومساهماتك الطيبة والخيرة،  فالإمام  يعلمنا ان نطلب من الله اذا وفقتنا  لصنع الخير للناس ان لا يمحقه  اي لا يبطله بالمن ، وقد ورد استعمال البطلان في القرآن أكثر من مرة، مثل قوله تعالى﴿لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى﴾(9)، أما المحق فقد ورد قليلاً ومنه قوله تعالى﴿يمحق الله الربا ويربي الصدقات﴾(10) وقوله تعالى﴿ويمحق الكافرين﴾(11).

والمطلوب عدم المن ايا كان نوع العمل الذي تقدمه .. احيانا البلديات تقدم مساهمات خيرة للناس فتمن عليهم، احيانا الحكومات الرؤساء الزعماء النواب الوزراء المسؤولين يقدمون انجازات او خدمات فيمنون على الناس، نحن فعلنا ونحن سوينا ونحن قدمنا والخ يقول الامام علي في عهده للاشتر: (وَإِيَّاكَ وَالْمَنَّ عَلَى رَعِيَّتِكَ بِإِحْسَانِكَ أَوِ التَّزَيُّدَ فِيمَا كَانَ مِنْ فِعْلِكَ أَوْ أَنْ تَعِدَهُمْ فَتُتْبِعَ مَوْعِدَكَ بِخُلْفِكَ فَإِنَّ الْمَنَّ يُبْطِلُ الْإِحْسَانَ).

وليس المن فقط ان تذكّر مباشرة من احسنت اليه بما فعلته وتتحدث بوجهه ، بل من المن ايضا ان تتحدث امام الناس عن مساعدتك لاحد حتى لو كان غائبا، وان تشهر بمساعدتك له واحسانك اليه او بتصدقك عليه وان لم يكن موجودا، لان في ذلك أذية له انت تؤذيه بحديثك عن احسانك له أمام الناس.

 فقد دَخَلَ رَجُلٌ عَلَى الإمام الجواد(ع) وَهُوَ مَسْرُورٌ وفرح. فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكَ مَسْرُوراً؟ قَالَ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ سَمِعْتُ أَبَاكَ يَقُولُ: أَحَقُّ يَوْمٍ بِأَنْ يُسَرَّ الْعَبْدُ فِيهِ يَوْمٌ يَرْزُقُهُ اللَّهُ صَدَقَاتٍ وَمَبَرَّاتٍ وَسَدَّ خَلاَّتٍ مِنْ إِخْوَانٍ لَهُ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّهُ قَصَدَنِي الْيَوْمَ عَشَرَةٌ مِنْ إِخْوَانِي الْمُؤْمِنِينَ الْفُقَرَاءِ لَهُمْ عِيَالاتٌ فَقَصَدُونِي مِنْ بَلَدِ كَذَا وَكَذَا فَأَعْطَيْتُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ، فَلِهَذَا سُرُورِي. فَقَالَ: مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ: لَعَمْرِي إِنَّكَ حَقِيقٌ بِأَنْ تُسَرَّ إِنْ لَمْ تَكُنْ أَحْبَطْتَهُ أَوْ لَمْ تُحْبِطْهُ فِيمَا بَعْدُ. قَالَ الرَّجُلُ: وَكَيْفَ أَحْبَطْتُهُ وَأَنَا مِنْ شِيعَتِكُمْ الْخُلَّصِ؟ قَالَ: هَاهْ قَدْ أَبْطَلْتَ بِرَّكَ بِإِخْوَانِكَ وَصَدَقَاتِكَ. قَالَ: وَكَيْفَ ذَلِكَ يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ؟ قَالَ لَهُ الجواد: اقْرَأْ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذى) قَالَ الرَّجُلُ: يَا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ مَا مَنَنْتُ عَلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ تَصَدَّقْتُ عَلَيْهِمْ وَلا آذَيْتُهُمْ. قَالَ لَهُ الجواد عليه السلام: إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذى، وَلَمْ يَقُلْ لا تُبْطِلُوا بِالْمَنِّ عَلَى مَنْ تَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهِ وَبِالأَذَى لِمَنْ تَتَصَدَّقُونَ عَلَيْهِ، وَهُوَ كُلُّ أَذًى.

فالمستفاد من الحديث المتقدم أن الشخص إذا صنع خيراً لأحد ثم ذكره في مجلس فان هذا من مصاديق المنة حتى ولو كان غائبا ، لإن الخبر سيصل إليه عاجلاً أو آجلاً فيتأذى، ولم يقيَّد الأذى أن يكون مباشراً كما لو يقول المانّ: أنا الذي أعطيتك المال ولم يكن عندك، أو أن يكون بصورة غير مباشرة كالايحاء مثلاً، وهذا امتحان صعب جداً يتطلب الاستعانة بالله تعالى حتى يجتازه الانسان بنجاح.