الحديث الرمضاني (8) لأي شيء خلقنا ؟

بسم الله الرحمن الرحيم (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ، وَاكْفِنِي مَا يَشْغَلُنِي الاهْتِمَامُ بِهِ، وَاسْتَعْمِلْنِي بِمَا تَسْأَلُنِي غَداً عَنْهُ، وَاسْتَفْرِغْ أَيَّامِي فِيمَا خَلَقْتَنِي لَهُ).تحدثنا في المحاضرة السابقة عن الفقرتين الأوليين من هذا المقطع من دعاء الإمام السجاد سلام الله عليه، ونتحدث الآن عن الفقرة الثالثة وهي قوله (ع)واستفرغ أيامي فيما خلقتني له  .

واستفرغ أيامي: أي اجعل أيامي كلها مبذولة فيما خلقتني له.او فرغ ايامي لأملئها بما خلقتني له فانت يا إلهي خلقتني في هذه الدنيا لهدف ما، ففرغ أيامي له.

فما هو الهدف الذي خلقنا من اجله وندعو الله ان يفرغنا له ؟؟

لا شك بان الله تعالى لم يخُلقنا للأكل والشرب والتزوّد من الملذّات الدنيويّة والشهوات، كما يعتقد اهل الدنيا الذين يعتبرون أنّ السعيد هو من حصل على حظ وافر من هذه الدنيا. فان هؤلاء لم يؤمنوا بالمعاد وبحياة اُخرى، كما قال الله تعالى في كتابه الكريم عن لسانهم:(وَقَالُوا مَا هِي إلاّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إلاّ الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْم إنْ هُمْ إلاّ يَظُنُّونَ). وفي اية اخرى:  (وَالَّذينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأكُلُونَ كَمَا تَأكُلُ الأنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوَىً لَهُمْ).

كما اننا لم نخلق للشقاء، كما يظن البعض من اننا خلقنا للشقاء ، حيث يقول البعض: إنّ الحياة كلّها شقاء وتعب وابتلاءات وازمات ، ومنهم من يقول: خُلِق بعضنا للسعادة والبعض الآخر للشقاء، وهذا رأي الأشاعرة. وهذا كلّه من الجهل والرجم بالغيب.

الصحيح الذي ينبغي الاعتقاد به وهو معتقد الإماميّة:هو ان اللهخلق الأشياء من أجل الإنسان:

(وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً).

وخُلق الإنسان من أجل تكامله، فخلقنا لنتكامل ونتزوّد بالعلم والمعرفة والعبادة والتقوى لنيل الرحمة والنعيم الأبدي.

خلقنا من الرحمة الإلهيّة ونشأنا بالرحمة، ونرجع بالعلم والعبادة إلى رحمة الله تعالى، حسبما تدل عليه الآيات الكريمة والروايات الشريفة، ففلسفة الحياة هو التكامل، وذلك بالرحمة والعلم والعبادة.

وبالعودة الى القرآن الكريم والاحاديث الشريفة فانها تلخّص لنا سرّ الخلق وفلسفة الحياة في هذه الحقائق الثلاثة: الرحمة والعلم والعبادة..

اما الرحمة:فيقول الله تعالى:(وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ).

واما العلم:فيقوال سبحانه:(اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَات وَمِنَ الأرْضِ مَثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْء قَدِيرٌ وَأنَّ اللهَ قَدْ أحَاطَ بِكُلِّ شَيْء عِلْماً).

واما العبادة:فيقول جلّ جلاله:وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُونِ).

وقد ورد في الحديث الشريف عن الإمام الصادق (عليه السلام) في قوله(إلاّ لِيَعْبُدُونِ)أي: إلاّ ليعرفون، فإنّ العبادة لا تتمّ ولا تصحّ إلاّ بعد المعرفة، فما خلق الجنّ والإنس إلاّ ليعرفوه وإذا عرفوه عبدوه.

عن الإمام الباقر (عليه السلام)، قال: (لا يقبل عمل إلاّ بمعرفة، ولا معرفة إلاّ بعمل، ومن عرف دلّته معرفته على العمل، ومن لم يعرف فلا عمل).

وعن الصادق (عليه السلام)، قال: خرج الحسين ابن عليّ (عليهما السلام) على أصحابه فقال: أيّها الناس إنّ الله جلّ ذكره ما خلق العباد إلاّ ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه، فقال له رجل: يا بن رسول الله، بأبي أنت واُمّي، فما معرفة الله؟ قال (عليه السلام): معرفة أهل كلّ زمان إمامهم الذي يجب عليهم طاعته.

والأئمة الأطهار هم الادلاء على الله ،وهم باب الله الذي منه يؤتى، ولولاهم لما عرف الله سبحانه، وإهم السبب المتّصل بين السماء والأرض، ووجه الله الذي يتوجّه إليه الأولياء.

عن ابن عمارة عن أبيه قال: سألت الصادق (عليه السلام)، فقلت له: لِمَ خلق الله الخلق؟ فقال: إنّ الله تبارك وتعالى لم يخلق خلقه عبثاً، ولم يتركهم سُدىً، بل خلقهم لإظهار قدرته، وليكلّفهم طاعته فيستوجبوا بذلك رضوانه، وما خلقهم ليجلب منهم منفعة ولا ليدفع بهم مضرّة، بل خلقهم لينفعهم ويوصلهم إلى نعيم الأبد.

في نهج البلاغة عن أمير المؤمنين (عليه السلام): يقول الله تعالى: يا بن آدم لم أخلقك لأربح عليك، إنّما خلقتك لتربح عليّ، فاتّخذني بدلا من كلّ شيء فإنّي ناصرٌ لك منكلّ شيء.

عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عزّ وجلّ(وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإنْسَ إلاّ لِيَعْبُدُونِ) قال: خلقهم ليأمرهم بالعبادة، قال: وسألته عن قول الله عزّ وجلّوَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ) قال: خلقهم ليفعلوا ما يستوجبون به رحمته فيرحمهم.

الخلاصة اننا خلقنا لنعرف الله لنعرف قدرته وعظمته وعظمة صفاته، فاذا عرفنا عظمته وقدرته عرفنا انه يستحق العبادة فنعبده ونطيعه ونقدسه ونشكره على عظيم مننه وعطاياه والطافه الجزيلة، فاذا عبدناه حق عبادته دخلنا في رحمته التي وسعت كل شيء، فنحن ندعوا الله ان يفرغ ايامنا لنملئها بالعلم والمعرفة وبالطاعة والعبادة لنستحق الدخول في رحمته.

وطبعا الامام(ع) لا يقصد بالتفرغ لما خلقنا له ان نترك اعمالنا وتجارتنا وارزاقنا ونترهبن ونبتعد عن الدنيا بالمطلق فانه لا رهبانية في الاسلام وقد نهت الروايات عن ذلك بشدة كما هو معروف، وانما المقصود هو ان يقنع الانسان با قدر الله له في الحياة الدنيا على كافة الصعد، وان يوفقه الله ليفرغ ايامه واوقاته في العلم والعبادة لا في الفراغ واللهو واللعب والغبث، والوقت الذي لا ينشغل فيه الانسان في تسيير شؤون حياته لاينبغي اضاعة شيء منه في الفراغ وانما ينبغي استفراغه وملئه بالعمل لما خلقنا له حتى نسمو بانفسان الى حيث مرضاة الله ورضوانه.