الحديث الرمضاني (5) أحسن النيات(2)

بسم الله الرحمن الرحيم قوله(ع): "وانتهِ بنيَّتي إلى أحسن النيَّات".قلنا ان المقصود بأحسن النيات هي النية الصادقة الخالصة  التي يقصد من خلالها الانسان توجيه العمل الى الله ومن اجل رضاه فهو يقصد وجه الله لا أي شيء آخر ويقوم بالعمل لا بقصد الحصول على الثواب او دفع العقاب بل لان الله يحبه ويريده ويرضاه .

وهذه النية هي احسن النيات وهي مطلوبة ليس في العبادات فقط بل في كل خطوات الانسان وحركاته وسكناته حتى في المباحات في الاكل في الشرب في المشي وراء الجنازة في زيارة المؤمنين في السؤال عن احوالهم، في الذهاب للمسجد للصلاة .. في كل عمل ايا كان عباديا او غير عبادي لانه في الاعمال غير العبادية وفي المباحات ان لم ينوي شيئا وان لم ينوي وجه الله عُدّ من الغافلين كما ذكر بعض العلماء بينما ان نوى وجه الله حتى في مشيه واكله وشربه حوّل هذه الاعمال الى اعمال عبادية فتسجل في ميزان حسناته يوم القيامة.

 قال بعض العلماء: أفضل ما يتقرب به العبد إلى الله أن يعلم أنه لا يريد العبد من الدنيا والآخرة غيره، قال الله تعالى: «واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه» ، وهو مقام النبيين والصديقين والشهداء.

وروي عن الصادق عليه السلام أنه قال: (لا بد للعبد من خالص النية في كل حركة وسكون) . لأنه إذا لم يكن بهذا المعنى يكون غافلا، والغافلون قد وصفهم الله تعالى فقال: «إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا» ، وقال: «أولئك هم الغافلون» .

اذن: أحسن النيات ما كان خالصا لوجه الله ليس فيه شيء غير الله ورضاه تماما كفعل علي يوم الخندق لمَّا برز لعمرو بن ود العامري في معركة الأحزاب وتقاتلا أصابت عمرو بن ود جراحةً غائرة سقط على أثرها فبادر عليٌّ لقتله فشتمه عمرو وأساء إليه  ويقال انه بصق بوجهه، وعليٌّ (ع) رجل صاحب نخوة، وصاحب عزَّة، ولا يقبلُ أن يُشتم.. أصحاب المروَّات لا يقبلون الشتيمة، وأن يُساء إليهم، وأن يُهانوا، فغضب لكنه ابتعد عن موضع المعركة، وأخذ يروح ويجيء، حتَّى هدأ ، وعاد فقتل عمرو بن ود. وعندما سُئل عن سرِّ ذلك، قال: أردتُ أن أقتله لله، لا لغضب نفسي. فقد يحتمل أن يكون ذلك غضباً لنفسه لا لله، فقام عنه حتَّى هدأ عليه السلام وعاد فقتله لله تعالى لا لغيره. يعني أراد أن يكون عمله متمحضاً لله عزوجل  خالصاً لوجهه الكريم، ولذلك لم يقتله، حتى هدأ غضبه فكان الباعث الوحيد على قتله إياه هو التقرب لله عزوجل. هكذا كان أهل البيت (ع)، في كلِّ ما كانوا يفعلون لا يقصدون بعمله وتصرفاتهم الا وجه الله والتقرُّب إلى الله سبحانه

 

والنيَّة الصادقة التي هي احسن النيات قد تقوم مقام العمل، فتغنيك عن العمل فالمؤمن قد ينوي ان يقوم بالعمل الجميل الفلاني لوجه الله ولا يتمكن من فعله لسبب من الاسباب لمانع معين منعه عن ذلك. ولكنه يحصل على ثواب ذلك العمل بالرغم من أنَّه لم يعمله!

  وهذا هو الفرق بين المرائي وغيره فالمرائي عمل العمل الخير ولكنه لانه قصد غير وجه الله فقد حُرم ثواب عمله، بينما من نوى ان يعمل عمل خير لوجه الله وبنية صادقة.. ولم يتمكن من فعله  فانه يحصل على ثوابه واجره ويكتب الله له ما يكتبه للذين قاموا به.

 وهذا عليه شواهد كثيرة:

من الشواهد: ما قاله جابر بن عبد الله الأنصاري، عندما وقف على قبر سيد الشهداء (ع)، وقال: "أشهد أننا قد شاركناكم. فقال له صاحبه: كيف شاركتهم، ولم تصعد تلَّة، ولم تضرب بسيف، ولم تطعن برمح، وهؤلاء قومٌ برزوا لمضاجعهم، وفُرِّقت رؤوسُهم عن أجسادهم, كيف تكون معهم؟! قال: لما سمعته عن رسول الله (ص): من أحبَّ عمل قومٍ كان شريكاً لهم, ومن أحبَّ عمل قوم حُشر معهم".

إذن، فنيةُ الخير تُنتج أن يتحصَّل الإنسان على ثواب ذلك العمل، ولذلك ورد في روايات كثيرة أنَّ الرجل ينوي أن يُصلِّي لله ليلا، فتغلبه عيناه، فيُكتب عند الله أنه صلَّى!

ومن الشواهد : ما جرى في غزوة تبوك، وبعد أن عبَّأ رسول الله (ص) المسلمين لمواجهة الرومان حشَّد رسول الله ثلاثين ألف رجل, فجاء بعضهم إلى رسول الله (ص)، وكانوا من الضعفاء, فقالوا: "يا رسول الله، ليس عندنا ما نسافر به معك، فاحملنا" -أي أعطنا فرسا، أو جملا؛ لكي نرحل معك لمواجهة الكفار-, فقال (ص): "لا أجد ما أحملكم عليه", -هم ينوون الخير، ولكنهم لا يستطيعون- ﴿تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ﴾، ليس عندهم ما يُنفقون، وليس عندهم ما يركبون. ويقال انهم: طلبوا من رسول الله نعلا؛ حتى يمشوا معه! هؤلاء يقول عنهم الرسول الكريم (ص): "هم معنا"، فيقال له: "يا رسول الله، كيف يكونون معنا، وكيف يُثابون بما أُثبنا، ولم يقطعوا وادياً؟! فقال (ص): "كانوا معنا بنيَّاتهم، لذلك لهم ما لنا من ثواب".

بينما آخرون كانوا مع رسول الله (ص)، إلا أنَّ القرآن وصفهم بالنفاق، ووصف أعمالهم بالهباء المنثور، رغم أنهم كانوا مع رسول الله! فمدار الثواب والعقاب بالنية.

ورد في الحديث الشريف: "إنَّ المؤمن لتَرِدُ عليه الحاجة لأخيه المؤمن، فلا تكون عنده، فيهتمَّ قلبُه، فيُدخله الله -تبارك وتعالى- بهمِّه الجنة"، لأنه قد أصابه وانتابه الهمّ؛ نظراً لعدم قدرته على قضاء حاجة أخيه، فيمنحه الله الجنة بسبب ذلك الهمّ، والنية الصادقة الخيِّرة.

والخلاصة: أن المؤمن قد ينوي الخير ولا يوفق ينوي أن يقضي حاجةً لمؤمن -وقد يُحرم منها-، وينوي أن يفعل الصالحات, فيقوم ببعضها، ويتعذَّر عليه القيام بالأخرى.. فيأتي يوم القيامة وله ثواب كلِّ ما نوى. هذه مرتبة عالية، وهي سرُّ النجاح -كما أفاد أمير المؤمنين (ع)-, يقول عليه أفضل الصلاة والسلام: "عوَّد نفسك حُسن النيَّة، وجميل المقصد, تُدرك في مباغيك النجاح"، كن حريصاً دائماً على قصد الخير، وعندئذ ستجد النجاح، إن لم يكن نجاحاً في الدنيا، ففي الآخرة.