الحديث الرمضاني (4) أحسن النيات(1)

بسم الله الرحمن الرحيم قوله (ع): "وانتهِ بنيَّتي إلى أحسن النيَّات".النية: هي القصد إلى الفعل.. فإذا قصد الإنسان الفعل، تولَّدت عنده إرادة تدفعه للقيام بذلك الفعل لغاية وهدف معين، و الهدف الذي يدفع الانسان نحو الفعل تارة يكون سيئا وتارة يكون خيرا.

  هناك من يقوم بالفعل، ويكون قصده وهدفه منه الكيد للاخرين, أو الإساءة, أو الظلم  والبغي.. فهذه نية سوء. وهناك من يفعل الفعل، بقصد الإحسان، وبهدف مساعدة الاخرين وقضاء حوائج الناس، وهذه نيةُ خير.

فالإمام (ع) يريد أن يحثُّنا من خلال هذه الفقرة من الدعاء على أن تكون نيَّاتنا دائماً في إتجاه الخير، فالمؤمن لا يقصد الشرور، ولا الإيذاء للناس، ولا يقصد الظلم، والكيد، والبغي على أحد.

اذن المطلوب بالدرجة الاولى قصد الخير ان يتوجه الانسان نحو فعل الخير.

ثانياً : أنَّ الإنسان الذي يقوم بالفعل الخير والجميل، فيصلِّي، يصوم، يُجاهد في سبيل الله، يقضي حاجةً لمؤمن، يتصدق على الفقراء، يساهم في بناء بيوت الله، ، ينصح، يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويفعل الكثير من الخيرات -هذا أحسنُ حالاً من ذلك الصنف الذي يقصد الشرور، ويفعل الشرور-, ولكنَّ هذا الإنسان الذي يفعل الخيرات ويقوم بالواجبات والطاعات والعبادات تنقسم نيته باعتبار غايتها وهدفها والدافع والداعي للعمل الى ثلاثة انواع: قبيح ، وحسن ، واحسن .

1-القبيح العمل الذي يكون القصد فيه الحصول على امر دنيوي، على مصلحة ومكسب خاص وعلى منفعة خاصة، تكون نيته وقصده والداعي والباعث ليس الحصول على الثواب وليس وجه الله وانما شيء اخر ليس له في الاخرة نصيب، سمعة شهرة مدح ثناء الخ مثل نية اهل الرياء والمنافقين وغيرهم.

فأهل الرياء والمرائون والمنافقون قد يقومون ببعض الاعمال الصالحة والعبادات لكن اهدافهم وغاياتهم ليست الهية واخروية وبالتالي لا يحصلون على ثواب هذه الاعمال، ولا يجدون لها أثراً في الآخرة، فهم مصداق لقوله تعالى: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا﴾(2)، فيأتي الانسان التي تكون غايته ونيته دنيوية في يوم القيامة ليجد صحيفته خالية بيضاء، ليس فيها أنه قضى حاجةً لمؤمن، أو أنه صلَّى لله، أو أنه صام، أو حجَّ، أو أمر بالمعروف، أوجاهد! فيقول: يا ربي، كنتُ قد فعلتُ وفعلتُ، فهل غفِلتْ الحفظةُ من الملائكة أن تكتب في صحيفتي هذه الأعمال الحسنة؟! فيُقال له: لا، لم تغفل، ولم تنس الحفظة، والملائكة التي تراقب أعمالك لا تغفل ولا تنسى, بل يكتبون كلَّ ما تفعل. ولكننا محوناها؛ لأنها لم تصدر عن نيَّة خير؛ فأنت إنما جاهدتَ ليُقال عنك شجاع, وأمرتَ بالمعروف ليقال عنك جريء, وتصدَّقت ليُقال أنك كريم سخي, وصلَّيت ليقال عنك أنك من المؤمنين، المقيمين للصلاة، المؤتين للزكاة. فعلت كلَّ ذلك للناس، فإذا أردتَ ثواباً فالتمسه مِمَّن فعلتَ لهم، "إنما الأعمال بالنيات، ولكلِّ امرأ ما نوى".

عن علي(ع)، أنَّ رسول الله(ص) أغزى علياً (ع) في سرية، وأمر المسلمين أن ينتدبوا معه في سريته، فقال رجل من الأنصار لأخ له: أغزُ بنا في سرية علي، لعلَّنا نُصيب خادماً أو دابةً أو شيئاً نتبلغ به! فبلغ النبي(ص) قوله، فقال:"إنَّما الأعمال بالنيَّات، ولكل امرئ ما نوى، فمن غزا ابتغاء ما عند الله، فقد وقع أجره على الله، ومن غزا يريد عَرَض الدنيا، أو نوى عقالاً، لم يكن له إلاَّ ما نوى".

 وفي السيرة النبوية يذكر المؤرخون أنَّ رجلاً من الصحابة أبلى بلاءا حسناً في الحرب، وجاهد وقاتل وقَتَل ثم قُتِل, ولما انتهت الحرب قيل: رحم الله فلان، فلقد أبلى بلاءاً حسناً، جاهد الكفار وناضلهم حتى ذهب شهيداً.. يذكر المؤرخون أنَّ رسول الله (ص) علَّق على قولهم، قال: نعم، هو شهيد، ولكنه شهيدُ الحمار.

لماذا سُمى بشهيد الحمار! ؟ لأنه قصد من جهاده أن يدفع الكفار حتى لا يُسلب منه حماره، فقُتل في هذا السبيل، فهو شهيد الحمار.

هما اثنان، قُتلا في معركةٍ واحدة، في صفٍ واحد، وسقطا على صعيدٍ واحد، ولعلَّ جراحاتِ هذا أكثر من جراحات الآخر, ولعلَّ من قَتَلهم من الكفار أكثر ممنَّ قتلهم الآخر.. إلَّا أنَّ هذا تستقبله الحور العين، وتُفتح له أبواب الجنات، ويُقال له ادخل من أيِّ بابٍ شئت. وأما الآخر فتُفتح له أبواب جهنم! هذه هي آثار النيات.

 وهكذا صلاة علي بن ابي طالب وصلاة ابن ملجم فالصلاة واحدة في صورتها الظاهرية وفي وحد افعالها لكن الصورة الباطنية الملكوتية لصلاة علي علوية لأنها خالصة لله والصورة الباطنية الملكوتية لصلاة ابن ملجم سفلية لانها ليست لله

فعندما نبحث عن كيفية تصحيح النية يجب علينا أن نُدرك أن الذي يطلبه الله عز وجل من عمل الخير هو قصد الخير، وقصد القربة و الزلفى إلى الله من ذلك الفعل، وإلَّا ذهب الفعل هباءاً..

اذن القصد من العمل بحسب غايته وهدفه قد يكون قبيحا كما ذكرنا وقد يكون حسنا واحسن.

2-الحسن هو ما كان غايته امرا اخرويا اي الحصول على الثواب وتجنب العقاب، فيقوم الانسان بالعبادات والطاعات من صلاة وصوم وحج.. وفعل الخيرات من مساعدة الناس وقضاء حوائجهم..  بنية وهدف الحصول على الثواب رغبة في الثواب او رهبة من العقاب والعذاب كما قال امير المؤمنين: ان قوما عبدوا الله رغبة فتلك عبادة التجار وإن قوما عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد وإن قوما عبدوا الله شكرا فتلك عبادة الأحرار».

3-اما الاحسن فهو ما كان غايته وجه الله وطلب رضا الله فهو يقوم بالعمل ليس رغبة في الثواب او رهبة من العقاب بل يقوم به خالصا لوجه الله لان الله يحبه ويريده ويرضاه،

 وهذا ما يعبر عنه بالنية الصادقة، وهذه هي أحسن النيَّات.

الإخلاص لله هو أحسن النيَّات، والإخلاص ليس في العبادة فحسب -وإن كان الإخلاص في العبادة شرطٌ في صحَّتها, فليس من عبادة تكون مُجزيةً إلَّا بإخلاص لله عز وجل، إلَّا أنه ينبغي أن تكون نيَّة المؤمن في جميع أعماله، هي قصد التقرّب إلى الله عز وجل وحده. فيستشعر الإنسان في هذه الدنيا بأنَّه موظف لله عزوجل وللدين.. انظروا، إنَّ الكثير من الموظفين والعمال قد لا يعملون عن رغبةٍ ذاتية في العمل، وإنما يعملون ليرضى عنهم مسئوول العمل. لنكن نحن مع الله هكذا, نحن نصلي ليرضى عنّا الله, دائما في حُسباننا وخَلَدنا مراقبة الله عز وجل، لذلك سوف نحرص على أن نُرضيه في كلِّ عمل.

يقول النبي الكريم (ص) لأبي ذرّ -بما معناه-: "إن استطعت أن لا تأكل ولا تشرب إلا لله فافعل". ينبغي أن يصل المؤمن لمرحلةٍ تكون فيها أعماله جميعا خالصةً لوجه الله, لا يريد حمداً، ولا ثناءاً، ولا مدحا، ولا يقصد أن يُرضي أحداً إلَّا الله عز وجل.

وهذا هو معنى الإخلاص، أن تخلص النية: يعني أن يتمحَّض القصد لله عز وجل. فالقلب قد يكون مشوباً بكثيرٍ من القصود، وقد يخلو من كلِّ قصد إلَّا قصد واحد. الإخلاص هو أن يكون قلبك مشغولا بقصدٍ واحد، وهو التزلُّف والتقرُّب إلى الله ، وعندئذ تكون كل حركةٍ وسكون، وكل فعلٍ من أفعالك محلَّ رضاً لله ، وعندئذ لن تفعل المعاصي؛ لأن القلب الذي خلص لله عزوجل يكون حريصاً على عدم قصد ما يُسخط الله عزوجل.

نموذج للإخلاص الحقيقي..

الإخلاص هو أن يخلو القلب من كلِّ قصد -حتى ولو كان هذا القصد تبعياً ثانوياً، أن يخلو من كلِّ قصدٍ غيرِ قصدِ التقرب إلى الله سبحانه.

ولتوضيح المسألة نذكر مثلاً من سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع)، يذكر المؤرخون أن علياً (ع) لمَّا برز لعمرو بن ود العامري في معركة الأحزاب وتقاتلا أصابت عمرو بن ود جراحةً غائرة سقط على أثرها فبادر عليٌّ لقتله فشتمه عمرو وأساء إليه -وعليٌّ (ع) رجل صاحب نخوة، وصاحب عزَّة، ولا يقبلُ أن يُشتم.. أصحاب المروَّات لا يقبلون الشتيمة، وأن يُساء إليهم، وأن يُهانوا- فما الذي صنعه عليّ (ع)؟ ابتعد عن موضع المعركة، وأخذ يروح ويجيء، حتَّى هدأ روعه، وعاد فقتل عمرو بن ود. وعندما سُئل عن سرِّ ذلك، قال: أردتُ أن أقتله لله، وألَّا يُخالط قتلي إياه شيءٌ من التشفِّي والإنتقام للنفس. يعني أراد أن يكون عمله متمحضاً لله عزوجل  خالصاً لوجهه الكريم، ولذلك لم يقتله، حتى هدأ غضبه فكان الباعث الوحيد على قتله إياه هو التقرب لله عزوجل. هكذا كان أهل البيت (ع)، في كلِّ ما كانوا يفعلون لا يقصدون به سوى التقرُّب إلى الله .

قال بعضهم: أفضل ما يتقرب به العبد إلى الله أن يعلم أنه لا يريد العبد من الدنيا والآخرة غيره، قال الله تعالى: «واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه» ، وهو مقام النبيين والصديقين والشهداء.

روى في مصباح الشريعة عن الصادق عليه السلام أنه قال: لا بد للعبد من خالص النية في كل حركة وسكون .

لأنه إذا لم يكن بهذا المعنى يكون غافلا، والغافلون قد وصفهم الله تعالى فقال: «إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا» (4)، وقال: «أولئك هم الغافلون» .

وشرح ذلك بعض العلماء فقال: يجب أن يكون للعبد في كل شئ يفعله وعمل يعمله نية وإخلاص، حتى في مطعمه ومشربه وملبسه ونومه ونكاحه، فإن ذلك كله من أعماله التي يسأل عنها ويجازي عليها، فإن كان لله وفي الله كانت في ميزان حسناته، وإن كانت في سبيل الهوى ولغير الله كانت في ميزان سيئاته، وكان صاحبها في الدنيا على مثال البهائم الراتعة والأنعام المهملة السارحة، ولا يكون على الحقيقة إنسانا مكلفا موفقا، وكان من الذين ذكرهم الله بقوله: «أغفلنا قلبه عن ذكرنا» أي: وجدناه غافلا، كقولك: دخلت بلدة فأعمرتها أي: وجدتها عامرة، أو أخرجتها أي: وجدتها خرابا، فهو غافل عما يأتيه ويذره، متبع لهواه فيما يورده ويصدره، وكان أمره فرطا بغير نية في أوله ولا صحة في آخره.

قال بعضهم: ومن هنا يعلم أنه يمكن أن تجعل العادات عبادات، كالأكل والشرب إذا نوى بهما القوة على الطاعة، وكالتطيب إن قصد به إقامة السنة، لا استيفاء اللذات وتودد النسوان، إذ هو معصية.
ففي الخبر: من تطيب لله جاء يوم القيامة وريحه أطيب من ريح المسك، ومن تطيب لغير الله جاء يوم القيامة وريحه أنتن من الجيفة .

واجتهد في تصيير ذلك ملكة للنفس.