الحديث الرمضاني (2) أفضل اليقين 1

بسم الله الرحمن الرحيم قوله(ع) : "واجعل يقيني أفضل اليقين. اليقين: هو العلم والاعتقاد الجازم الثابت الذي لا شك ولا ريب فيه ولا تردد ولا شبهة فيه، ولا يمكن زواله ومحوه.

فاذا كنت تعتقد بوجود الله او برسالته او بوعده، فاليقين يجعل اعتقادك جازما ثابتا ومستحكما في القلب، لا تزلزله الشبهات والبدع والافكار المنحرفة ولا الحرب الناعمة ولا الغزو الثقافي ولا التحديات الفكرية وغيرها ولا الشهوات والأهواء والطموحات.

لان اليقين اعتقاد جازم مطابق للواقع ثابت لا يمكن محوه، وهو في الحقيقة مؤلف من علمين: العلم بالمعلوم، والعلم بأن خلاف ذلك محال،فاذا كنت تعتقد بعدل الله مثلا وصار لديك يقين بعدله، فانت تعلم بانه عادل يعطي كل ذي حق حقه، وتعلم بان الظلم الذي هو نقيض العدل محال على الله تعالى.

 ولليقين ثلاث مراتب: علم اليقين، وعين اليقين، وحق اليقين.
وقد اشار القرآن الى ذلك، بقوله تعالى: « كلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ، لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ ، ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ»  وقال: «وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ ، فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ ، وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ، إِنَّ هَٰذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ».

1-اما علم اليقين، فهو العلم بالشيء من خلال اثاره مثل العلم بالنار مثلا من خلال وجود الدخان.


2- عين اليقين، هو أن يرى المعلوم عيانا، فليس الخبر كالعيان.مثل العلم بالنار من خلال معاينة جرم النار والشعاع والنور المنبعث منها... وهو العلم الحاصل بالكشف للخلص من المؤمنين الذين اطمأنت قلوبهم بالله وتيقنوا بمعاينة القلوب أن الله نور السماوات والأرض، كما وصف به نفسه.


3- حق اليقين، هو أن يصير العالم والمعلوم واحدا  كما لو ان الانسان علم بوجود النار من خلال الوقوع فيها والاحتراق بها.

وهذه المراتب ليست بمستوى واحد من حيث الفضل بل لها تراتبية في الفضل والكمال.

وحق اليقين هو الدرجة العليا والمرتبة الفضلى من بين المراتب الثلاث، وهو افضل اليقين الذي سأله الامام عليه السلام في الدعاء (واجعل يقيني أفضل اليقين) وهو الذي ينبغي ان ندعو الله لكي نصل اليه ، لان الول الى هذه المرتبة يحتاج الى جهاد وسعي ومثابرة وارادة وتوفيق ومعونة من الله سبحانه.

فافضل اليقين هو ان تصل في اعتقاداتك الى مرتبة حق اليقين بان تعتقد بالشيء وكأنك تعيشه وتتلمسه وتحس به وتشعر فيه، تعتقد بالجنة وكأنك تعيش فيها وتتلذذ بنعيمها، وتعتقد بالنار وكأنك تحترق فيها وتشعر بالمها وعذابها.

لذلك عبَّرت الروايات في مقام تفسير اليقين بأنه المعاينة، أو ما ينتج عن المعاينة.. فقد لا يكون المتيقَّن به معايناً ومشاهَداً، ولكن اطمئنانك بوجود المتيقَّن كاطمئنان المعايِن والمشاهِد الذي يتلمسه ويحس به.

 لذلك لما سُئل أمير المؤمنين (ع): هل رأيت ربَّك؟، قال له: ويحك، وهل أعبد رباًّ لم أره؟! إنه لم تره العيون، ولكن رأته القلوب.

فالقلب مطمئن، راسخ الثبات، ويقطع قطعا تاماًّ بوجود معبوده، ولا ينتابه شك أو ريب..

 لذلك كان (ع) يقول: "لو كُشف لي الغطاء ما ازددت يقينا" فسواءٌ عند علي بن أبي طالب أن يُعاين الجنة، أو لا يعاينها؛ فهو على يقين منها.. وسواء عاين النار، أم لم يعاينها؛ فهو على يقين بها. هذا هو معنى اليقين، فهو بصيرة بمستوى المعاينة ينتح عنه اطمئنان مستحكم في القلب, بلا ريبة، ولا شكٍ، ولا تأرجُحٍ، ولا تردد

واليقين بهذا المستوى هو من صفات المتقين كما جاء في خطبة المتقين: عَظُمَ الْخَالِقُ فِي أنْفُسِهِمْ فَصَغُرَ مَا دُونَهُ فِي أَعْيُنِهِمْ، فَهُمْ وَالْجَنَّةُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِيهَا مُنَعَّمُونَ، وَهُمْ وَالنَّارُ كَمَنْ قَدْ رَآهَا، فَهُمْ فِيهَا مُعَذَّبُونَ

وهو من صفات الشهداء والمجاهدين الذين يعشقون الشهادة.

من نماذج هؤلاء ما ذكره الامام الصادق عليه السلام عن شاب كان في عهد النبي هو حارثة بن مالك بن النعمان الأنصاري يقول: إن رسول الله صلى الله عليه وآله صلى بالناس الصبح، فنظر إلى شاب في المسجد وهو يخفق ويهوي برأسه مصفرا لونه، قد نحف جسمه وغارت عيناه في رأسه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كيف أصبحت يا فلان؟ قال: أصبحت يا رسول الله صلى الله عليه وآله موقنا، فعجب رسول الله صلى الله عليه وآله من قوله، وقال: إن لكل يقين حقيقة فما حقيقة يقينك؟ فقال: إن يقيني يا رسول الله هو الذي أحزنني وأسهر ليلي وأظمأ هواجري، (واظماء الهواجر كناية عن الصوم في حر النهار) فعزفت نفسي عن الدنيا وما فيها، حتى كأني أنظر إلى عرش ربي وقد نصب للحساب وحشر الخلائق لذلك وأنا فيهم، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتنعمون في الجنة ويتعارفون على الأرائك متكئون، وكأني أنظر إلى أهل النار وهم فيها معذبون مصطرخون، وكأني الآن أسمع زفير النار يدور في مسامعي، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله: هذا عبد نور الله قلبه بالإيمان، ثم قال له: الزم ما أنت عليه، فقال الشاب: أدع لي يا رسول الله أن ارزق الشهادة معك، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وآله، فلم يلبث أن خرج في بعض غزوات النبي صلى الله عليه وآله، فاستشهد بعد تسعة نفر وكان هو العاشر.

وقول النبي(ص) للشاب: (الزم ما أنت عليه) يدل على أن الكمالات البشرية والصفات التي يتحلى بها الانسان قد تزول بعد المحافظة، ولذلك قال العارفون الخائفون من زوالها: (ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة أنك أنت الوهاب ".