القرآن يتحدى المنكرين ويحدد مصيرهم (18)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعو شهدائكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أُعدت للكافرين) ـ 23/24.

الخطاب في هاتين الآيتين موجه إلى الكافرين والمشككين بنبوة النبي محمد(ص) وبالقرآن الذي أنزل عليه من الله عزوجل.

ويريد الله بالآية الأولى أن يتحدى الكافرين وكل الذين ينكرون أو يشككون في أن هذا القرآن من عند الله، بأن يأتوا بمثل سورةٍ واحدة من سور القرآن.

ويريد سبحانه وتعالى في الآية الثانية: أن يبين مصير هؤلاء الجاحدين وما أعده الله لهم من عقاب وعذاب بسبب إصرارهم على الكفر والعناد, حتى بعد أن عجزوا عن مواجهة التحدي.

ولذلك فإن الحديث في هاتين الآيتين يقعُ في نقطتين:

النقطة الأول: في التحدي الذي أطلقه القرآن وسرِ الإعجاز فيه.

والنقطة الثانية: في مصير الكافرين والمنكرين.

أما النقطة الأولى: فإن من الواضح أن النبوة بشكل عام هي سفارة بين الله وبين خلقه, والله يختار ويصطفي لهذه السفارة من يشاء من عباده, فيرسله إلى الناس من أجل أن يبلغهم عن الله ما فيه مصلحتهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة, وقد جهّز الله كل نبي بمعجزة تكون دليلاً على نبوته وصدقه.

والمعجزة كما هو واضح من لفظها: هي عملٌ خارق للعادة يأتي به النبي ويعجز الآخرون عن الإتيان به، وعلى النبي صاحب المعجزة أن يتحدى الناس بمعجزته وأن يُعلن لهم أن معجزته دليلٌ على صدق ادعائه للنبوة.

ولنبينا محمد (ص) معاجزٌ ودلائل كثيرة تدل على نبوته، من هذه المعاجز هو هذا القرآن الذي هو أقوى سندٍ ودليل على نبوته وصدقه، والقرآن هو معجزةٌ ناطقة يدعو إلى نفسه بنفسه ويتحدى المعارضين والمنكرين بنفسه, وقد تحدى البشرية بقوة وصراحة في مواضع عديدة على أن يأتوا بحديثٍ مثلِ القرآن, وما زال يتحداهم حتى اليوم كما تحداهم في عصر الرسالة.

ونلاحظ: بأن القرآن تدرج في هذا التحدي، فطلب في البداية أن يأتوا بمثل جميع القرآن، فقال تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنسُ والجنُ على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضُهم لبعض ظهيراً) الإسراء/88. ثم تدرج وطلب أن يأتوا بعشر سور مثل سوره وليس من الضروري أن يأتوا بمثله كله. فقال تعالى: (أم يقولون افتراه، قل فاتوا بعشر سُورٍ مثلِهِ مُفترياتٍ وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) هود 13/14.

ثم خفف الطلب وتحداهم أن يأتوا بمثل سورة واحدة من سوره، فقال تعالى: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورةٍ مثله وادعو من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) يونس/ 38. وقوله تعالى في الآية التي نتحدث عنها: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهدائكم من دون الله إن كنتم صادقين).

فالله يخاطبهم في هذه الآية ويقول لهم: إن كنتم في ريب أي في شك مما نزلنا على عبدنا أي على محمد بن عبد الله (ص)، إن كنتم تشكون في أن ما أنزل على محمد (ص) من القرآن هل هو وحي من عند الله أو من عند نفسه (فأتوا بسورة من مثله) من مثل القرآن في أسلوبه وفي بلاغته وفصاحته وفي خصائصه، اصنعوا ولو سورة صغيرة مثل سوره، ولا تقوموا بهذا العمل منفردين وحدكم بل (وادعوا شهدائكم) أعوانكم وأنصاركم ممن يساعدونكم ويشاركونكم في رفض رسالة النبي (ص) ادعوا العلماء والمفكرين والادباء والبلغاء ومن تشاؤون من جميع الناس، جندوا كل طاقاتكم وإمكاناتكم وتعاونوا جميعاً وأتوا بمثل سورة واحدة من سور القرآن (إن كنتم صادقين) مما تدعونه من أن هذا الكتاب يقوله محمدٌ من عند نفسه ولا يمثل الوحي الإلهي وليس هو من كلام الله تعالى.

لقد أطلق القرآن هذا التحدث الصارخ بكل قوة، ولم يكتفِ في تحديه بدعوة الناس إلى أن يأتوا بمثله دعوة عادية، بل أثارهم وحفزهم وشجعهم على ذلك, وعبارات التحفيز والتشجيع والإثارة نجدها في قوله تعالى: (إن كنتم صادقين) فإن كنتم صادقين فما تدعون من أن هذا القرآن من عند محمد وليس من عند الله فأتوا بحديث مثله، فإن عجزتم فذلك تدليل على كذبكم، فانهضوا إذن لإثبات أدعائكم، وكذلك نجد الإثارة والتشجيع في قوله تعالى: (وادعوا من استطعتم من دون الله). وفي قوله تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن). وفي قوله تعالى: (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة).

وبالرغم من كل هذه الإثارة وقوة هذا التحدي، لم يستطع المعارضون والمنكرون أن يأتوا حتى بسورة مفيدة مثل سور القرآن، وعجزوا عن ذلك منذ الايام الاولى لنزول القرآن، علماً بان الدواعي والمقتضيات التي تدفعهم وتجبرهم على مواجهة هذا التحدي والسعي باتجاه الإتيان ولو بسورة واحدة، كانت متوافرة وموجودة لديهم، فهم من أهل اللغة العربية, من أهل الفصاحة والبلاغة والكلام, وقد تحداهم الله بما من شأنه أن يكون مقدوراً لهم وهو الكلام, بأن يأتوا بكلام مثل كلام القرآن ولم يتحداهم بما هو خارج عن قدرتهم, لأنه لم يطلب منهم أن يحملوا الجبال أو يجففوا البحار مثلاً، وإنما طلب الحديث والكلام ولا شيء أهونُ عليهم من ذلك. هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن هؤلاء المعاندين حاولوا بكل الوسائل وبكل ما لديهم من قوة وطاقة أن يسقطوا الرسول والرسالة، لقد واجهت الدعوة خصوماً وأعداء ألداء من المشركين واليهود والنصارى والمنافقين, وقد حارب هؤلاء نبي الإسلام بشتى الوسائل والأساليب المتوفرة لديهم، حاربوه بالسيف، وحاربوه بالحصار الاقتصادي، وحاربوه بالافتراءات والدعايات الإعلامية، وحاربوه بالطرد والنفي من بلده, حتى أن بعض المنافقين اتصل بامبراطور الروم آنذاك للتآمر على الإسلام، فلماذا أعرضوا عن محاربته بسيف العلم لإثبات عيب في معجزته؟ ولماذا وقف جميع فصحاء العرب من الشعراء، والأدباء والمفكرين مكتوفي الأيدي ناكسي الرؤوس لا يستطيعون أن يعطوا جواباً على التحدي الذي أطلقه القرآن للإتيان بحديث مثله؟؟.

وهل وراء ذلك غيرُ العجز والفشل؟.

إن عجز فحول العرب في الشعر والنثر والأدب والكلام البليغ الفصيح عن الإتيان بمثل سورة من سورالقرآن, دليل ساطع على أن هذا القرآن من كلام الخالق لا من كلام المخلوق، وأن عجز المعارضين والكافرين وكل هؤلاء، يدل على أن هناك سراً في هذا الكتاب, ولا تفسير لهذا السر إلا كون هذا القرآن وحياً إلهياً أنزله الله على نبيه ورسوله محمد (ص).

وحتى هذا اليوم لم يستطيع أحد أن يصنع مثل هذا القرآن, بالرغم من أن المفكرين والشعراء والادباء استنزفوا كل جهودهم وطاقاتهم للإتيان ولو بمثل آية من آيات القرآن.

فقد نقل عن هشام ابن الحكم أنه اجتمع ابن أبي العوجاء، وأبو شاكر الديصاني وعبد الملك البصري وابن المقفع عند بيت الله الحرام يستهزؤن بالحج، ويطعنون بالقرآن فقال ابن أبي العوجاء: تعالوا ينقض كلٌ واحد منا ربع القرآن، وميعادنا السنة القادمة في هذا المكان، نجتمع فيه ونكون قد نقضنا القرآن كله، فإن في نقض القرآن إبطال نبوة محمد (ص) وفي إبطال نبوته إبطال الإسلام وإثبات ما كنا فيه, أي إثبات الجاهلية.

فاتفقوا على ذلك وافترقوا، فلما انقضت السنة اجتمعوا عند بيت الله الحرام كما اتفقوا، فقال ابن أبي العوجاء: أما أنا فمفكر منذ افترقنا في هذه الآية: (فلما استيأسوا منه خَلَصوا نجيّا)  يوسف/ 80. فلم أقدر أن أضم إليها في فصاحتها وجميع معانيها شيئاً، فشغلتني هذه الآية عن التفكير فيما سواها.

فقال عبد الملك البصري: وأنا منذ فارقتكم مفكر في هذه الآية: (يا أيها الناس ضُرِب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذباباً ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئاً لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب) الأنبياء/2. فلم أقدر على الإتيان بمثلها.

فقال أبو شاكر الديصاني: وأنا منذ فارقتكم مفكر في هذه الآية: (لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا)  الحج/ 73. ولم أقدر على الإتيان بمثلها.

فقال ابن المقفع: يا قوم إن هذا القرآن ليس من جنس البشر، وأنا منذ فارقتكم مفكر في هذه الآية: (وقيل يا ارض ابلعي ماءك ويا سماء أقلعي وغيض الماء وقضي الأمر واستوت على الجودي وقيل بعداً للقوم الظالمين) هود/ 44. فلم أبلغ غاية المعرفة بها, ولم أقدر على الإتيان بمثلها.

قال هشام بن الحكم: فبينما هم في ذلك إذ مرَّ بهم جعفر الصادق (ع) فقال: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً) الإسراء / 88.

فنظر القوم بعضهم إلى بعض، وقالوا: لئن كان للإسلام حقيقة لما انتهت وصية محمد إلا إلى جعفر بن محمد (ع) والله ما رأيناه قط إلا هبناه، واقشعرت جلودنا لهيبته، ثم تفرقوا وهم عاجزون عن الإتيان بحديث مثل القرآن.

واما النقطة الثانية: فهي أن الآية الثانية وهي قوله تعالى: (فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أُعدت للكافرين). تشير إلى منطق جازم وقاطع بأن الكافرين والمعاندين والمشككين لن يستطيعوا أن يواجهوا تحدي القرآن وأن يأتوا بكلام مثل كلامه, ولكنهم مع ذلك سوف يصرون على إنكار نبوة النبي (ص) وعلى إنكار الوحي الإلهي المتمثل بهذا القرآن، وسبب هذا العناد وهذا الجحود بالرغم من عجزهم وفشلهم وقيام الحجة عليهم, هو أنهم سوف يواجهون المصير السيء الذي أعده الله لهم وهو العذاب في النار التي أُعدت لهم، هذه النار التي وقودها ـ أي حطبها ومادة اشتعالها ـ هي الناس والحجارة.

 والمقصود من هذا التعبير بيان شدة حرارة جهنم, وأن حرارة جهنم وحريقها يبلغ درجة تشتعل فيها الصخور والحجارة والأجساد والأبدان كما يشتعل الوقود والحطب.. هذه النار أُعدت للكافرين والجاحدين, وللذين لم يمتثلوا ما أنزله الله تعالى على نبيه من تعاليم وقيم وأحكام إلهية، وإنما تمردوا على كل ذلك فاستحقوا بذلك دخول النار والعذاب فيها.

 

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين