المنافقون بين الإفساد في الأرض وشعارات الإصلاح (16)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).

قلنا في تفسير الآية السابقة (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً) إن النفاق مرض يصيب قلب الإنسان وعقله وروحه، لأنه ليس هناك مرض روحي ونفسي أسوا من أن يكون الإنسان انتهازياً يفكر في أن يخدع نفسه، ومصالحه وأطماعه كما هي الحال في الإنسان المنافق. ليس هناك علة وآفة اسوأ من أن يحمل الإنسان في ظاهره مودة وإخلاصاً ومحبة للمؤمنين ولكن يخفي في باطنه حقداً وعداوة وبغضاً عليهم وولاءاً لأعدائهم كما هو ديدن الإنسان المنافق.

هذه الشخصية المزدوجة التي يملكها المنافقون، وهذا التضاد والتناقض الواضح بين المحتوى الداخلي والسلوك الخارجي في وجود المنافقين، يفرز مظاهر وعلامات سلبية عديدة وبارزة في حياتهم وفي سلوكهم الفردي والاجتماعي.

أي أن مرض النفاق مثل سائر الامراض التي تصيب قلب الإنسان، فإن مرض القلب تظهر علاماته السلبية بوضوح على جميع أعضاء الإنسان، وكذلك مرض النفاق فإنه تظهر علاماته السلبية والشريرة في سلوك المنافق وفي أعماله وأقواله وفي حركته في الحياة.

من هذه العلامات التي تظهر في سلوك المنافقين نتيجة مرضهم ما ذكره القرآن في الآيات التي قرأناها في بداية الحديث.

الآية الأولى: تذكر أن المنافقين يتحركون في خط الفساد والتخريب والتآمر، ويدعون الإصلاح, والإصلاح مجرد شعار يرفعونه لتغطية فسادهم, ومجرد مواجهة يتسترون وراءها. (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الارض قالوا إنما نحن مصلحون، الا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).

والفساد الذي يمارسه المنافقون متعدد الوجوه: فهم يرتكبون الفساد بحق أنفسهم وفيما بينهم وبين الله, وذلك عندما يخرجون عن خط الاستقامة فيراءون ويرتكبون المعاصي والذنوب، وهم يرتكبون الفساد بحق غيرهم عندما يغشون الآخرين ويخدعونهم، وهم يمارسون الفساد بحق المجتمع عندما يخونون ويتآمرون.

ولعل من ابرز مظاهر الفساد والتخريب الذي يمارسه المنافقون في داخل المجتمع الإسلامي وخارجه:

أولاً: قيامهم بإبعاد الناس عن خط الإيمان والالتزام بأحكام الدين, وإفساد عقائدهم وأخلاقهم تحت شعارات مختلفة, كشعار الحرية والتقدمية والحداثة والانفتاح وما إلى ذلك.

ثانياً: التزامهم بولاية الطغاة والمستكبرين الذين يريدون إذلال المؤمنين، والتحالف معهم، والتعاون مع دوائرهم الاستخباراتية التي تعمل على قهر المستضعفين.

ثالثاً: تخلفهم عن الجهاد وانسحابهم من الساحة في ساعات الشدة.

رابعاً: تثبيط الناس عن ممارسة واجباتهم في جهاد الأعداء وشل إرادة الدفاع والمواجهة لديهم.

خامساً: استنهاض العدو وتحريضه على مواجهة المؤمنين والمستضعفين.

سادساً: إثارة الفتن داخل المجتمع الإسلامي وبين طوائفه والجماعات السياسية فيه.

هذه الأعمال هي أبرزُ ما يقوم به المنافقون في كل عصر وزمان, وهذا ما كان يمارسه المنافقون في عهد رسول الله (ص), فقد قاموا بمحاولات كثيرة لإفساد العقيدة وصد الناس عن الإيمان والالتزام بدعوة رسول الله (ص), وتعاملوا مع أعداء الإسلام وبخاصة مع اليهود، وكانوا يحرضون اليهود على المسلمين، وهم الذين بنوا مسجد الضرار، واشاعوا حديث الإفك بهدف الإساءة إلى النبي (ص)، وحاولوا إثارة الفتنة بين المهاجرين والأنصار، وقاموا بمحاولات لتثبيط الناس عن الجهاد وبخاصة في غزوة تبوك, وانسحبوا من الجيش الإسلامي في غزوة أحد، وتخلفوا عن الجهاد بمبررات واهية، وقطعوا المساعدات المالية عن المسلمين كي يتفرقوا ويبتعدوا عن رسول الله (ص) ورسالته, إلى غير ذلك مما هو مذكور في القرآن والتاريخ, وقد بلغ أمرهم في الإفساد والتآمر على النبي (ص) وإثارتهم الفتن داخل المجتمع الإسلامي آنذاك إلى حد أن الله هددهم بقوله تعالى في سورة الأحزاب: (لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمُرجفون في المدينة لنُغرينّك بهم ثم لا يجاورنك فيها إلا قليلاً، ملعونين أينما ثُقفوا أُخِذوا وقُتِّلوا تقتيلا)  61.

وقد كان المنافقون يقومون بكل هذه الأعمال والتصرفات، إما سراً وفي الخفاء أو تحت عناوين ومبررات واهية، وخلف شعارات وطروحات لا قيمة لها سوى أنها واجهة يتسترون وراءها، فعندما كان المؤمنون يواجهون هؤلاء المنافقين بفسادهم ومؤامراتهم، وأعمالهم وأفكارهم وطروحاتهم كانوا يجيبونهم (إنما نحن مصلحون) لا غاية لنا ولا هدف عندنا إلا الإصلاح والخير والهدى! ولكن الله عز وجل كان يواجههم بواقعهم وحقيقتهم ويكشف فساد طروحاتهم وأعمالهم (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).

هم المفسدون لأن أعمالهم وتصرفاتهم والشعارات التي يرفعونها تترك آثاراً سلبية في حياة الناس، وهي تشكل خطراً كبيراً على مصير المجتمع الإسلامي ورسالته وكيانه (ولكن لا يشعرون) لا يشعرون بفسادهم وحجم قذارة أفعالهم، لأن استغراقهم في ضلالهم وانجرافهم وفسادهم جعلهم يرون باطلهم حقاً وفسادهم صلاحاً.

وقد نستوحي من الآية أن النفاق يتحرك مع كل عمل أو حركة أو موقف ظاهره الصلاح وباطنه الفساد, ومع كل فكر يحمل الفساد في أهدافه ودوافعه وخلفياته.

فالمنافقون يتحركون تحت شعارات وعناوين مختلفة، ويختبئون وراء طروحات وأفكار واقنعة تخدع الناس في دينهم وفي أخلاقهم وفي علاقاتهم الاجتماعية والسياسية وغيرها.

هناك من يطرح أفكاراً في المجتمع تحمل الكثير من الفساد والفوضى والدمار والتخريب باسم الإصلاح, وباسم تغيير الواقع نحو الافضل.

نحن نصادف ونسمع كثيراً في حياتنا المعاصرة عن دعوات تدعو إلى الفجور والانحلال تحت عنوان التجرد من عوامل الكبت، وتحت عنوان تحطيم العقد النفسية، وتحت شعار الحرية, مثل الدعوة إلى تبرير الأزياء الفاضحة, ونزع الحجاب بحجة حرية المرأة, أو تحت شعار عدم التمييز الديني داخل المدارس والجامعات, أو مثل الدعوة إلى التخلي عن كثير من قيم الدين وأحكام الدين بحجة أنها رجعية, أو الدعوة إلى الإرتباط بقيم الغرب تحت عنوان التقدم وتغيير واقع التخلف، أو حتى مثل بعض الدعوات السياسية التي تدعو بطريقة أو بأخرى إلى التخلي عن خيار الجهاد والمقاومة ضد العدو الصهيوني بحجة تجنيب الناس القتل والدمار والخراب, أو بحجة أن المقاومة غير مجدية، أو ما إلى ذلك.

فالمنافقون يدعون في العمق إلى الفساد, ولكنهم يفلسفونه ويعطونه صفة الصلاح والخير, ويمنحون أنفسهم من خلال ذلك صفة المصلحين والحريصين على أمن الناس وحياة الناس وسلامة المجتمع.

إن القرآن يريد أن يقدم لنا هذه النماذج التي تتحرك في مجالات الإفساد والتخريب تحت شعارات الصلاح والتقدمية والوطنية وغيرها من أجل أن يبعث فينا روح الوعي، ومن أجل أن نفتح أعيننا على أمثال هؤلاء ممن يعيشون معنا وفي داخل مجتمعنا, ممن قد يحتلون مواقع اجتماعية وسياسية, لئلا ننطلق في التعامل مع الآخرين ببساطة، بل بوعي وحذر ودراسة لكل خلفياتهم ودوافعهم, حتى نجعل من أنفسنا الأمة الواعية التي تفهم واقعها فهماً جيداً, لنحدد موقعنا على أساس من الفهم والوعي.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين