النفاق مرض داخلي وعلاجه ضرورة (15)

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا ونبينا أبي القاسم محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين.(في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون)

لا يزال الحديث عن خصائص المنافقين وصفاتهم وقد ذكرنا في الحلقة الماضية أن المنافقين هم: الذين يظهرون خلاف ما يضمرون, يعني أنهم يظهرون الإيمان، ويبطنون الكفر، وأنهم ذووا شخصيتين وذووا وجهين: وجه إسلامي أمام المسلمين, ووجه معادي للإسلام أمام أعداء الدين، فالمنافق مع المؤمنين مؤمن ومع الكافرين كافر.

وفي هذه الآية يبين القرآن أن النفاق في حقيقته نوع من المرض يصيب داخل الإنسان وقلب الإنسان وعقل وتفكير الإنسان.

الإنسان السالم له وجهٌ واحد وليس وجهين, وله شخصية واحدة وليس عنده انفصام في الشخصية، والإنسان السالم يوجد في ذاته انسجامٌ كاملٌ بين الروح والجسد وبين الظاهر والباطن، فمثلاً: إذا كان الإنسان مؤمناً فإن الإيمان يتجلى في كل وجوده في روحه وفي جسده، في داخله وفي خارجه، في ظاهره وفي باطنه، بمعنى أنه يتحرك في حياته وفق ما يؤمن به, فيجير إيمانه الداخلي في عمله الخارجي وفي ممارساته فيكون مؤمناً في فكره وفي سلوكه وفي داخله وفي خارجه، وفي ظاهره وفي باطنه.

أما إذا كان الإنسان منحرفاً فإن ظاهره وباطنه يدلان على انحرافه, فإذا كان المنحرف عنده ازدوجية في الموقف وفي الشخصية بحيث يُظهر خلاف ما يعتقد ويكون ذا وجهين ولا يكون هناك أي انسجام بين محتواه الداخلي وبين سلوكه الخارجي فهذا مرضٌ آخر وعلةٌ إضافية، زائد مرض وعلة الانحراف الاساسي, لأن المرض هو أن يكون الإنسان في حالةٍ غير طبيعية، فإيُ حالة غير طبيعية في حياة الإنسان تعتبر ظاهرة مرضية في حياته، سواء كانت الحالة غير الطبيعية موجودة في جسده أو في روحه أو في تفكيره، ولأن النفاق هو حالة غير طبيعية في حياة الإنسان, لأنه ليس من الطبيعي أن يكون الإنسان صاحب شخصيتين شخصية كافرة في الداخل وشخصية مؤمنة في الظاهر والخارج، لذلك اعتبر الله النفاق مرضاً روحياً، واعتبر المنافق إنساناً مريضاً (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً).

وهذا المرض مرض النفاق كأي مرض آخر إذا لم يُعالج فإنه يزداد ويتطور، والمريض الذي يُهمل مرضه فلا يبادر إلى علاجه بل يستمر في تعامله مع اسباب المرض ومع العوامل التي تؤدي إلى المرض، فإن مرضه يتطور ويزداد ويتسع.

وهكذا المنافقون فإنهم أصيبوا بمرض النفاق بإرادتهم واختيارهم وبفعل مواقفهم الانتهازية، وبسبب استغراقهم في حالتهم النفاقية وفي خطهم وأعمالهم, وبسبب عدم مبادرتهم إلى علاج هذه الحالة المرضية وعدم مبادرتهم إلى تصحيح مواقفهم ازداد مرضهم واتسع (فزادهم الله مرضاً) وهذه الزيادة هم الذين تسببوا بها بسبب أعمالهم التي صدرت منهم بإرادتهم واختيارهم, ولكن نسبة هذه الزيادة إلى الله, باعتبار أنه هو مسبب الاسباب, وباعتبار أن الله تعالى هو الذي يعطي القوة والإرادة التي يستطيع الإنسان أن يتحرك من خلالها بالاتجاه الذي يريد وفي الخط الذي يختاره.

ومرضُ النفاق قد لا يكون من الاشياء المتأصلة في ذات الإنسان, فهو ليس حالة تولد مع الإنسان بل هو مرضٌ طارئ له اسبابه وعوامله الخاصة:

فقد تنشأ ظاهرة النفاق في المجتمع من حالة الخوف, مثلاً: إذا سيطر على المجتمع فكر معين أو نهجٌ معين وحقق هذا النهج انتصاراً كاسحاً في داخل المجتمع يشعر المعارضون لهذا الفكر أو ذاك النهج بالانهزام, فيضطرون إلى الاستسلام أمام ذلك الفكر ظاهراً فيخفون معارضتهم، ويعلنون ولاءهم لذلك النهج ظاهراً, خوفاً من مواجهة المجتمع بما يخالف تفكيره وأوضاعه, فالمنافقون يتقربون من المؤمنين ظاهراً, ويعلنون إيمانهم وقناعتهم بنهج الإيمان وبرسالة الله ظاهراً, لأنهم يخافون مواجهتها بعد أن حققت انتصاراً لها في داخل المجتمع الإسلامي.

وقد تنشأ ظاهرة النفاق من حالة الطمع، فالمنافق لأنه يطمع مثلاً في الحصول على مكاسب من هذه الجهة ومن تلك الجهة أو من هذا الفريق وذاك الفريق, لا يتخذ موقفاً حاسماً ولا يحسم خياراته في اتجاه واحد, وإنما يبقى متقلباً ومذبذباً بين هذا الفريق وذاك الفريق طمعاً، ليحافظ على مصالحه هنا ومصالحه هناك, فهو مع المؤمنين مؤمن ظاهراً, لأنه يحقق لنفسه أطماعه ومصالحه مع المؤمنين لأنه محسوبٌ منهم، وهو مع الكافرين كافرٌ لأنه يحقق لنفسه أطماعه ومصالحه مع الكافرين لانه في العمق وفي الأساس هو واحدٌ منهم، وهكذا يقع الإنسان بدافع من حالة الطمع التي تسيطر عليه في النفاق ويتحول إلى إنسان مخادع في الحياة.

وقد ينشأ مرض النفاق من سبب آخر، من حالة نفسية قلقة لدى شخص معين، فالشخص الذي يعيش حالة نفسية مضطربة وقلقة ولا يملك وعياً حاسماً، يبقى متحيراً ومتمرداً في مواقفه في الحياة، فيتخذ موقفاً مع هؤلاء وموفقاً مع أولئك ويداهن هذا الفريق وذاك الفريق ويبقى مذبذباً بينهما.

والخلاصة: إن أهم أسباب وعوامل ظهور حركة النفاق في المجتمع هي: حالةُ الخوف، وحالةُ الطمع لدى الإنسان، وحالة القلق النفسي والتردد في اتخاذ الموقف الحاسم.

وهذه الأسباب والعوامل هي التي أدت إلى ظهور حركة النفاق والمنافقين في عهد الإسلام الاول وفي زمن رسول الله (ص)، وهي التي تؤدي إلى ظهور النفاق في كل عصر وفي كل زمان.

والإنسان الواعي هو الذي يعالج هذه الأسباب في نفسه وفي حياته ويضعُ لها حداً فيضعُ حداً لأطماعه وشهواته وأهوائه، لئلا تؤدي به إلى مرض النفاق، ولئلا يتحول إلى إنسان منافق, فيلاقي المصير الذي توعّد الله به المنافقين (ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون).

 فالمنافقون يتحملون المسؤولية الكاملة عن أوضاعهم التي يعيشونها ويمارسون فيها الكذب في الكلمة وفي الموقف وفي العمل، عن عمد وسبق إصرار وتصميم، فهم سينالون العذاب الأليم لأجل كذبهم, والمنافق كاذبٌ لأنه يعلن الإيمان كذباً وهو في الواقع ليس بمؤمن.

والعذاب الذي يناله المنافق على كذبه، هو أشر وآلم من عذاب الكافرين وقد قال الله تعالى: (إن المنافقين في الدِّرْك الأسفل من النار) النساء/ 145.

ومهما كانت ظاهرة النفاق ظاهرة مرضية فإنها لا تبرر أي عمل من أعمال المنافقين وكذبهم على الله ورسوله والمؤمنين، فإن كون المنافق مريضاً لا يبرر له مرضه هذا أعماله وممارساته وكذبه، لأن هذا المرض نشأ بإرادته واختياره, فقد كان قادراً على أن لا يقع منذ البداية في هذا النفاق وفي هذا الكذب، وهو قادرٌ الآن أن يتخلص من هذا المرض إذا أراد ذلك، فالنفاق في البداية والنهاية كان بإرادة واختيار المنافق، ولذلك فهو يستحق هذا المصير السيء إذا استمر في موقفه، أما إذا تاب وأصلح موقفه وصحح أعماله، وغيّر طريقه, وحسم خياره في خط الله وفي خط الإيمان وفي نهج الصدق والصالحين، فإن له عند الله جزاءاً آخر هو جزاءُ المؤمنين والصالحين.

يقول تعالى: (إن المنافقين في الدَّرْك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يُؤتِ الله المؤمنين أجراً عضيما) النساء 145/146.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين