المقالات

محاضرة تحت عنوان الإمام الصادق(ع) ومعالم التشيع

             بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على اشرف الانبياء والمرسلين سيدنا ونبيينا وحبيب قلوبنا وشفيع ذنوبنا أبي القاسم محمد بن عبدالله وعلى آله الطيبين الطاهرين.مجددا نبارك لكم جميعا، ولولي الله الأعظم الإمام المهدي (عج) ولولي امر المسلمين في غيبته آية الله العظمى الإمام السيد علي الخامنئي دام ظله الوارف، ولعموم المسلمين ذكرى ولادة رسول الله محمد (ص) وولادة حفيده الإمام جعفر الصادق (ع).

       الإمام جعفر الصادق هوالإمام السادس من ائمة اهل البيت (ع) الذين اذهب الله عنهم الرجس وتطهرهم تطهيرا، وفرض علينا جميعا موالاتهم واتباعهم وطاعتهم.

       ابوه هو الإمام محمد الباقر(ع) وجده هو الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع) وأمه هي فاطمة بنت القاسم بن محمد بن ابي بكر.

       ولد (ع) في المدينة المنورة يوم الجمعة أو الإثنين عند طلوع الفجر في 17 ربيع الأول سنة 80 هجرية. أي في نفس اليوم الذي يصادف فيه ذكرى ولادة رسول الله محمد (ص).

       كنيته: ابو عبد الله، ولقبه: الصادق، وإنما لقب بالصادق لشدة صدقه.

       اشهر زوجاته: هي حميدة بنت صاعد المغربي، وأولاده هم إسماعيل وعبد الله والإمام موسى الكاظم (ع) وإسحاق ومحمد الديباج والعباس وعلي، وأما بناته فهن: أم فروة واسماء وفاطمة.

       عاش الإمام الصادق (ع) في أواخر الحكم الأموي وبداية الحكم العباسي ومدة إمامته: أربع وثلاثون سنة.

 

       استشهد (ع) في الخامس والعشرين من شهر شوال سنة 148 هـ متأثرا بسم دسه إليه المنصور العباسي على يد عامله على المدينة محمد بن سليمان، ودفن (ع) في مقبرة البقيع في المدينة المنورة إلى جنب أبيه الإمام الباقر وجده الإمام زين العابدين وعمه الإمام الحسن عليهم السلام.

       لقد احتلت شخصية الإمام الصادق (ع) موقعا متقدما ومكانة علمية مرموقة في الواقع الإسلامي، فقد ملأ هذا الواقع علما ومعرفة وفكرا ووعيا نظرا لتنوع العلوم والمعارف التي كان ينشرها من خلال الجامعة الإسلامية الكبرى التي ثبت دعائمها في تلك المرحلة.

       وقد شهد بفضله وموقعه ومكانته الفقهية والعلمية الكثيرون من العلماء والمفكرين وبعض ائمة المذاهب الأربعة وغيرهم.

       وعندما ندرس الكلمات التي قالها هؤلاء وغيرهم من المعاصرين للإمام ممن اختلفت اتجاهاتهم المذهبية واتجاهاتهم الفكرية فإننا نجد عظمة هذا الإمام تتمثل في تمكنه من أن يأخذ بعقول هؤلاء وقلوبهم ووجدانهم ومواقفهم منه.

       يقول مالك بن انس إمام المذهب المالكي: اختلفت إليه – أي للإمام الصادق- زمانا كنت لا أراه إلا على إحدى ثلاث خصال: إما مصل، وإما صائم وإما يقرأ القرآن، وما رأت عين ولا سمعت أذن ولا خطر على قلب بشر افضل من جعفر بن محمد الصادق علما وعبادة وورعا.

       وهذا التصريح نقله الذين ارخوا لشخصية الإمام مالك بن انس.

       وإذا قرأنا تصريح الإمام ابي حنيفة إمام المذهب الحنفي، فإننا نجد أنه يقول:ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد، لما اقدمه المنصور العباسي، بعث إلي فقال: يا أبا حنيفة إن الناس قد افتتنوا بجعفر بن محمد فهيء له من المسائل الشداد – أي الصعبة – لتفحمه ويظهر عجزه  أمام الناس. فهيئنا له أربعين مسألة، ثم بعث إلي ابو جعفر المنصور وهو الخليفة الثاني من خلفاء بني العباس وهو بالحيرة، فأتيته فدخلت عليه وجعفر بن محمد جالس عن يمينه، فلما ابصرت به ،دخلتني من الهيبة لجعفر بن محمد الصادق ما لم يدخلني لأبي جعفرالمنصور، فسلمت عليه وأومأ إلي فجلست فقال: يا أبا عبد الله هذا ابو حنيفة، فقال جعفر الصادق: نعم، قد اتانا. ثم التفت إلى المنصور وقال: يا ابا حنيفة القِ على ابي عبد الله مسائلك؟ فجعلت القي عليه، فيجيبني فيقول:انتم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا فربما تابعهم – اي وافقهم – وربما خالفنا جميعا حتى اتيت على الأربعين مسألة: ثم قال ابو حنيفة وهو يشير إلى الإمام الصادق (ع) أليس روينا أن اعلم الناس اعلمهم باختلاف الناس.

فكأنما يريد أن يقول أن الإمام الصادق (ع) يملك معرفة فقهية واسعة بحيث يعرف كل الآراء الفقهية المطروحة في زمنه بحيث يستطيع أن يواجه هذا الرأي وذاك الرأي بالحجة والدليل والبرهان لتأكيد رأيه.

ويقول: أحمد بن حجر صاحب كتاب الصواعق المحرقة: جعفر الصادق نقل عنه الناس من العلوم ما سارت به الركبان وانتشر حديثه في جميع البلدان، وروى عنه الأئمة الكبار كيحي بن سعيد وابن جريح ومالك ابن انس وابو حنيفة وشعبة وايوب السجستاني.

ويقول ابن ابي العوجاء وهومن الشخصيات الملحدة المعاصرة للامام(ع) وقد كان هو وآخرون يلتقون بالإمام في المسجد الحرام ليحاوروه في وجود الله وفي بعض مسائل العقيدة يقول عن الإمام الصادق (ع): ما هذا بشر، وإن كان في الدنيا روحاني يتجسد تارة إذا شاء ويتروح إذا شاء فهو هذا.

ونحن عندما نقرأ مثل هذه التصريحات والتي تعددت على لسان الكثيرين، فليس لأجل أن نستزيد في تعظيمه، فإن إمامته هي سر عظمته لأنها تمثل اللطف الإلهي به ورعاية الله له باعتباره الحجة على عباده وليس في ذلك زيادة لمستزيد. ولكن هذه التصريحات والشهادات تكشف عن مدى التأثير العميق الذي استطاع الإمام الصادق (ع) أن يؤثره في عقول هؤلاء وقلوبهم متى تحولوا إلى مثل هذه المواقف، كما اننا نعرف من خلال هذه الشهادات، كيف استطاع الإمام بالرغم من اختلاف الناس حول الإمامة وحول إمامته بالذات،كيف استطاع أن يفرض فضله وعظمته وعلمه وكل القيم المتمثلة فيه على العلماء والمفكرين وعلى كل رجالات عصره ومرحلته.

إن هذه المكانة العلمية التي احتلها الإمام في العالم الإسلامي إنذاك دفعت بالإمام إلى أن يقوم بدور واسع على المستوى العلمي والفكري، خصوصا أن الفترة التي عاش فيها الإمام الصادق (ع) والظروف السياسية التي كانت سائدة في تلك المرحلة كانت تسمح له بالتحرك والقيام بنشاط علمي واسع، لأن الفترة التي عاش فيها الإمام الصادق كانت فترة صراع بين الأمويين والعباسيين ولهذا فقد كان الأمويون والعباسيون مشغولين بصراعهم عن أهل البيت (ع) هذه الفرصة اتاحت للإمام تثبيت دعائم الجامعة الإسلامية ونشر العلوم والمعارف التي ورثها من رسول الله على نطاق واسع بعيدا عن اضطهاد وملاحقة ومطاردة السلطة لأن القاعدة انذاك كان تقضي أن كل إمام من ائمة اهل البيت كان مضطهدا من السلطة الحاكمة حيث أن الحاكم كان يفكر في أول ما يفكر فيه في كيفية التضييق على الإمام والحد من نشاطه وتحركه وكيفية الإساءة إليه، كانت هذه هي القاعدة.

ولكن في عصر الإمام الصادق كان الحكام مشغولين بصراعهم عنه ولهذا استطاع أن يربي جيلا كبيرا من العلماء الذين استطاعوا أن يبنوا ويأسسوا ويظهروا فقه اهل البيت وينشروه في كل مكان ويوصلوه إلينا صافيا نقيا.

ويقول احد المؤرخين: دخلت مسجد الكوفة، فإذا فيه /900/ شيخ واستاذ كل يقول حدثني جعفر بن محمد الصادق، والمام الصادق في كثير من احاديثه كان يقول حدثني أبي محمد الباقر (ع) لأن الأئمة كانوا يتوارثون العلم ولم يعرف أن احدا من ائمة اهل البيت تتلمذ على يدي احد، وإنما كانت علومهم مستمدة من علم رسول الله (ص). ولذلك عندما سئل الصادق (ع) : عن الحديث يرسله ولا يسنده أي أنه لا يذكر الرواة الفاصلين بين زمنه وزمن رسول الله فقال (ع): إذا حدثت بالحديث ولم اسنده ، سندي فيه إلى زين العابدين عن ابيه الحسين الشهيد عن ابيه علي بن ابي طالب عن رسول الله عن جبرائيل عن الله تعالى.

 وهذا ما نظمه بعض الشعراء فقال:

ووال إناسا قولهم وحديثهم              روى جدنا عن جبرائيل عن الباري   

       ولذلك كله نستطيع أن نقول أن المعالم الهامة والدور الكبير الذي قام به الإمام الصادق على المستوى العلمي يتلخص بما يلي:

أولاً: تبيين مسألة الإمامة والولاية والدعوة إليها باعتبارها تمثل القيادة السياسية والفكرية والاخلاقية التي تقود الأمة وتدير شؤونها وتضمن وحدتها وقوتها.

ثانيا: بيان الأحكام وتفسير القرآن وفق ما ورثته مدرسة اهل البيت (ع) عن رسول الله (ص)، وقد تبلورت رؤية اهل البيت (ع) حول كثير من المسائل الفكرية والفقهية والعلوم الإنسانية في عصر الإمام الصادق (ع) حتى سمي الفقه الشيعي باسم الفقه الجعفري والتشيع باسم المذهب الجعفري.

       وقد كان لحركة الإمام الصادق (ع) العلمية هدف سياسي ايضا، حيث كان الحاكم يملك القدرة على تغيير احكام الدين بما ينسجم مع مصالحه من خلال وعاظ السلاطين وفقهاء السلطة الذين كانوا يبررون دينيا للحاكم واجهزته تصرفاتهم وسياساتهم فاختلقوا الأحاديث المكذوبة عن رسول الله (ص) وفسروا القرآن بالرأي، واستندوا في الفتوى إلى اذواقهم واهوائهم وآرائهم الخاصة.

       ومن هنا انقسمت العلوم الإسلامية، الفقه والحديث والتفسير إلى تيارين عامين في عهد الإمام الصادق (ع): تيار مرتبط بجهاز السلطة يتميز بتقديم الفتوى وفق مصالح هذا الحاكم، وقد تمثل هذا التيار بفقهاء السلطة، وتيار أصيل وأمين على دين الله تعالى يبين الأحكام الإلهية الصحيحة، وقد مثل هذا التيار الإمام الصادق (ع) والعلماء من اصحابه واتباعه، ومن الطبيعي أن التيار الثاني كان يصطدم مع اجهزة الحاكم ووعاظ السلاطين. ولذلك فإن اختلاف الفقه الجعفري مع الفقهاء الرسميين في عصر الإمام الصادق (ع) لم يكن اختلافا عقائديا فحسب، بل كان اختلافا استمد وجوده من محتواه المعارض ايضا. فالإمام الصادق (ع) بنشاطه العلمي وتصديه لبيان احكام الفقه والمعارف وتفسير القرآن الكريم بطريقة تختلف عن طريقة وعاظ السلاطين قد اتخذ عمليا موقف المعارضة تجاه جهاز الحاكم وإفراغ هذا الجهاز من محتواه الديني وهذا هو أحد الابعاد السياسية لحركته العلمية والفكرية وتوسع هذه الحركة وانتشارها على نطاق واسع.

       وعلى كل حال فإننا في هذا اللقاء لا بد وان نستفيد من مواعظ الإمام وكلماته في المجالات المختلفة وخاصة تلك المرتبطة بسلوكنا وأخلاقنا واعمالنا.

       فقد حدد الإمام الصادق (ع) في عشرات النصوص التي ينبغي أن يكون عليها شيعته واتباعه من خلال وصاياه وتوجيهاته واحاديثه مع اصحابه واعتبر أن التشيع يمثل برنامج حياة متكامل كما يمثل الشخصية الإسلامية الملتزمة التي إذا عاشت في مجتمع كانت خيرا وبركة عليه وعلى الناس من حوله.

       فقد ورد عنه (ع) انه قال: شيعتنا أهل الهدى، وأهل التقى، وأهل الخير، وأهل الإيمان، وأهل الفتح والظفر.

       عن المفضل، عنه (ع): إياك والسفلة، فإنما شيعة علي من عف بطنه وفرجه، واشتد جهاده،وعمل لخالقه ورجا ثوابه وخاف عقابه، فإذا رأيت اولئك فإولئك شيعة جعفر.

       وأما ما ينبغي أن تكون عليه صورة الإنسان المنتسب لخط أهل البيت (ع) في المجتمع وعلاقته مع الناس، فقد ورد عن ابي اسامة قال: سمعت ابا عبد الله (ع) يقول: عليك بتقوى الله والورع والاجتهاد وصدق الحديث واداء الأمانة،وحسن الخلق،وحسن الجوار، وكونوا دعاة بغير السنتكم، وكونوا زينا لنا ولا تكونوا شينا علينا (أي عارا).

وعنه (ع) أنه قال: كونوا دعاة للناس بغير السنتكم ، ليروا منكم الورع والاجتهاد (أي الاجتهاد في العمل بطاعة الله) والصلاة والخير فإن ذلك داعية (أي يكون عملكم الحسن داعيا للناس للدخول فيما انتم فيه من ولاية اهل البيت "ع").

كما ورد عن زيد الشحام انه قال، قال لي أبوعبد الله (ع): إقرأ على من ترى أنه يطيعني منهم" اي من الشيعة" ويأخذ بقولي السلام، واوصيكم بتقوى الله عز وجل والورع في دينكم والاجتهاد لله وصدق الحديث واداء الأمانة، وطول السجود، وحسن الجوار.

 فبهذا جاء محمد (ص)، ادوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها برا أو فاجرا، فإن رسول الله (ص) كان يأمر باداء الخيط والمخيط " أي بقايا خيوط الخياطة"، صلوا عشائرهم، واشهدوا جنائزهم ،وعودوا مرضاهم، وادوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث،وادى الأمانة وحسن خلقه مع الناس قيل: هذا جعفري فيسرني ذلك ويدخل علي منه السرور وقيل هذا أدب جعفر.

 فوالله لحدثني أبي (ع) أن الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة علي (ع) فيكون زينها، اداهم للامانة (اي اكثرهم واحسنهم تأدية لها) واقضاهم للحقوق ، واصدقهم للحديث، إليه وصاياهم وودائعهم، تسأل العشيرة عنه فتقول: من مثل فلان، إنه لأدانا للأمانة واصدقنا للحديث.

ويقول احد الرواة وهو ابوالربيع الشامي: دخلت على ابي عبد الله الصادق (ع) والبيت غاص فيه الخرساني والشامي ومن اهل الافاق، فلم اجد موقعا اقعد فيه في مجلس ابو عبدالله وكان متكئا ثم قال: يا شيعة آل محمد ليس منا من لم يملك نفسه عندغضبه،ومن لم يحسن صحبة من صحبه، ومخالقة من خالقه، ومرافقة من رافقه، يا شيعة آل محمد اتقوا الله ما استطعتم ولا حول ولا قوة إلا بالله.

وكان يقول لمن يلتقيه: خف الله كأنك تراه، وإن كنت لا تراه فإنه يراك، وإن كنت ترى أنه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنه يراك ثم برزت له بالمعصية ، فقد جعلته من اهون الناظرين إليك.

هذا هو الإمام الصادق (ع) في بعض كلماته: اننا عندما نقف مع هذا الإمام العظيم في ذكرى مولده، ومع هذه القيم الكبرى التي تتصل بسلوكنا وبعملنا وباسلوب التعامل مع الآخرين، فحري بنا أن نلتزم بها، لأن ذلك هو معنى أن نلتزم بهم وبخطهم ونهجهم.         وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين